12-فبراير-2019

سيرغين يسينين (يوتيوب)

في الـ 25 من كانون الثاني/ديسمبر عام 1925، دخل شاب في الثلاثين من عمره غرفة فندق بجسدٍ نحيفٍ تقاذفته جدرانها الضيّقة، بعد أن تقاذفته أهواؤه إلى أن استنفذت كلّ ملذّاته. كان الشاب ثملًا، يشعر بالغثيان بفعل ما استهلكه من فودكا تفوح رائحتها في أنفاسه. قبل أن يُلقي بنفسه دون حرصٍ فوق السرير، ويغطّ في نوم عميق.

ماياكوفسكي: لقائي بيسينين كان ذا طابع كئيب، لدرجة حاولت جاهدًا طول المساء طرده من مخيلتي، ولم أوفق

بعد يومين، ستبدأ القصّة، أو تبدأ نهايتها بالأحرى، حيث سوف يُعثر على الشّاعر الروسيّ العظيم سيرغين يسينين جثةً ملقاةً على الأرض، في الغرفة الحقيرة ذاتها. قبل ذلك، كان قد كتب قصيدته الأخيرة "الوداع! يا صديقي العزيز". وودّع الحياة بعد ذلك. والعالم بأبعاده الزمانية والمكانية أيضًا. هكذا، كانت الليلة الأخيرة من حياة يسينين غنيةً بالتفاصيل. أو ربّما هي مرّت كل حياته في ليلةٍ واحدة.

ما قبل الليلة الأولى

حانة صغيرة في أحد شوارع لينينغراد، معتادة على أن تحوي جماهير الشعراء الروس الذين اعتادوا بدورهم التجمّع داخلها. ويمكن وصفها بأنّها مجتمع مصغّر ومنغلق على نفسه لمن يأبى الاختلاط بالعامّة. وحيث الجميع يركن إلى عتمة المشارب ذات الطابع الأرستقراطي الافتراضي المحروسة بدقّة من رجال الأخ الأكبر، جوزف ستالين.

اقرأ/ي أيضًا: باسكار شاكرابورتي.. شاعر يكتب الصمت

يعتلي شاب ريفي مترنّح كرسيًا خشبيًا. كان الأخير الأبرز والأكثر شهرةً وإثارةً للجدل بينهم. وكان يصرخ بانفعالٍ في وجوههم: كلكم وصوليون. دون أن يأخذوه على محمّل الجد، فهو يسينين الذي خرج لتوّه من مصحّة عقلية كان ملزمًا بالبقاء فيها، بعد أن شهد على نفسه أنّ "الثورة البلشفية كانت مجرّد احتيال". وبعد أن عرض على مسامعهم خطبته الساحرة والعنيفة، المنمّقة بإنشادٍ مطوّل لأشعاره البديعة، وصل به الانفعال إلى مرحلة الهيجان، ليعيث في الحانة الصغيرة وروّادها خرابًا؛ تكسيرًا وضربًا وشتمًا.

في مذكّراته، يقول الشّاعر فلاديمير ماياكوفسكي: "لقائي بيسينين كان ذا طابع كئيب، لدرجة حاولت جاهدًا طول المساء طرده من مخيلتي، ولم أوفق (...) رجل برأس منتفخ، عليه قبعة ثابتة بأعجوبة تفر من تحتها حلقات شعر ذهبي أشعث (...) كانت أنفاسه تفوح برائحة الكحول. بصعوبة كبيرة تعرفت عليه، وبصعوبة أكبر كنت أصدّ إصراره بالعودة إلى الشرب".

من خلال شهادة كهذه، يمكننا تكوين بروفايل بصري عن بطلنا التراجيدي، ونعرف أنّه رجل ريفي في الثلاثين من العمر، يعاني من اضطّراب عقلي، ويفرط في السكر والشغب. نعرف كذلك أنّه لم يعرف الاستقرار النفسي، فكان حتّى في علاقاته العاطفية، على تعددها الكمي والكيفي، مضطربًا، لتكون علاقات هشّة ومتقطّعة. بالإضافة إلى علاقاته الجنسية المثلية التي عاشها يسينين بتلقائية، ولم يكتب لها أن تدم، لأنّه لم يستمر على قيد الحياة طويلًا. إذًا، هو شاعر مضطّرب، دفعه ذلك لأن يضع حدًّا لحياته. مخلّفًا وراءه الكثير من الحقائق التي لا يزال بعضها مجهولًا.

قبل وفاته بشهورٍ طويلة، كان يسينين تحت مراقبة السلطة الجديدة للبلاد، ذلك أنّ شخصيته الجدلية والمتمرّدة أثارت امتعاض مكتب ستالين، ليصفه بعدو الثورة، ويزجّ به في مصحٍ عقلي كعقابٍ له، الأمر الذي سوف يشكّل لاحقًا السبب الأول لنهايته المأساوية تلك.

قصيدة الوداع

لم يكن فندق The Angleterre آنذاك، حتّى وفاة يسينين، شهيرًا على الإطلاق. ولكنّ وفاة الأخير فيه هو ما أمدّه بالشهرة التي هو عليها اليوم. في الغرفة التي تحمل الرقم 5 في هذا الفندق، كان أوّل ما تبادر إلى ذهن يسينين حين دخلها ممزق الثياب أن يستلقي على السرير، مستندًا في ذلك إلى المقولة الماركسية الشهيرة "العامل لا يعي نفسه إلا إذا انكفأ على ظهره". وقد كان يسينين حينها في أمسّ الحاجة إلى هذا الوعي. وأتخيّل كذلك أنّه مع ومضات الصحو المتقطّعة، والتي يمنحك إياها التخلّص التدريجي من مفعول الفودكا، كانت تعود إليه كل الصور بصفائها. أي بذلك الصفاء الذي يتمتّع به شاعر مثله، مالكٌ القدرات الإلهية الخارقة في نقل المجسّد للمجرّد، بتلك السلاسة التي تبتغيها اللغة.

في تلك الغرفة، ستحضر حياته كاملةً على شكل صور تمرّ في ذاكرته؛ متاعبه، عواطفه المكتومة التي انحدرت إلى مستوى السذاجة، طفولته، وغير ذلك. وكان حينها مدركًا أنّه فقد كلّ شيء، حتّى تلك الرغبة الجامحة في العودة إلى الريف، حيث يعبر شخصه البسيط بين الحقول الذهبية وأشجار السرو، لكنه أدرك آنذاك أنّ العودة إلى طفولته باتت مرهقة أيضًا. لذلك، كان الشرب نشاطه الوحيد، إلى أن اتّخذ قراره بمغادرة الحياة.

قصيدة الوداع

أتخيّل الآن بحثه المُرهق عن الحبر الذي قضى عمرًا طويلًا في إهراقه بلا طائلة. ولكنّه، في ذلك الوقت، أدرك أن نقطة واحدة تكفي لتنهي المسألة. نقطة واحدة مفقودة دفعته، دون شعور، إلى وضع نصل السكين على معصمه وجرّها مدفوعًا بتلك الرغبة الجامعة للكتابة. كان يتخبّط ساعتها قاطعًا الغرفة، جيئة وذهابًا، يتلّمس لزوجة السائل الأحمر والدافئ الذي ينز به الشرخ على جلده. أخيرًا يجلس، يغمس القلم في بقعة دم، ويكتب قصيدته الأخيرة:

الوداع، صديقي العزيز،

أيها المعقود داخل القلب.

الفراق قدر، مع أن، المستقبل

 واعدٌ ببدايات جديدة.

 

الوداع، الآن، لا وقت لكلمات أخرى

ولا مصافحات جديدة

لا أحزان، ولا آلام مكفهرة.

 

أن تموت، ليس بالأمر المستجد،

ولا أن تعيش بتلك جدة المغرية (*).

 

النهاية

صبيحة الـ 28 من كانون الثاني/ديسمبر، كان الخبر منشورًا في كلّ جرائد الجمهورية التي نقلت نبأ وفاته بعد أن عثر عليه ملقى على أرضية غرفة الفندق. يسينين مات!

نزل خبر انتحار الشاعر كالصاعقة على جمهوره العريض، دافعًا بعض المغالين في حبهم له إلى اللحاق به بنفس الطريقة؛ أي الانتحار داخل غرفة فندق. أو والانتحار شنقًا بواسطة رباط حقيبة معلقة بماسورة مدخنة، لتعمّ حالة من الفوضى العارمة آنذاك، تلك التي خلقها الحدث في حلقة قرّاء يسينين، وبذات الشكل داخل حلقة معارفه الضيقة.

حينها كتب فيكتور سيرج، الكاتب الشيوعي، مقتبسًا من أشعار رفيقه الراحل: "أين أخذتني يا رأسي المتهور؟ لقد كنت كريهًا، لقد كنت شريرًا، لكن قادر على إشعال العبقرية". واصفًا أن هذه الأبيات أصدق تعبير عن نهاية يسينين الذي أتعبه الوقت، كما أتعبته قواعد شعرنا الرسمي. كما قال عنه أناتولي مارنوف، الشاعر الروسي وعشيقه السابق، أن يسنين ما كان ليرحل لولا شكه العميق في قدراته الابداعية، وحده ذلك الشك ما يدفع الشاعر إلى الرحيل.

في صبيحة الـ 28 من كانون الثاني/ديسمبر، كان الخبر المروّع: سينين مات!

أما ماياكوفسكي فرأى في طريقة موت يسينين خيانة، خيانة للشعر وخيانة للشيوعية. متأثرًا بعمق الحدث، كتب محورًّا الأبيات الأخيرة من قصيدة الوداع: "أن تموت، أمر سهل. لكن أن تخلق الحياة، ذلك شأن أكثر صعوبة". من الأمور الساخرة أن ماياكوفسكي سيموت بعدها بخمس سنوات، منتحرًا هو الآخر.

اقرأ/ي أيضًا: بيثنتي اليكساندري.. الناجي في ذكرى رحيله

موت يسينين منحه حياة أخرى، هكذا أقول على بعد أربع وتسعين سنة من الحادثة، مستندًا في ذلك إلى حضور الشاعر الخالد، وكذلك على الموجة الانقلابية التي خلقها شعر يسينين، مما أفشل كل محاولات إخمادها من قبل التوتاليتارية التي استفحلت بعد المرحلة اللينينوتروتسكية من تاريخ الجمهورية السوفياتية. بشكل بقي معها يسينين حيًا رغم موته، فيما ماتت طموحات الرقابة السلطوية على ذائقة الشعر.

 

(*) الترجمة عن النص الإنجليزي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ماريانا بينيدا.. المرأة التي جالت في الطرق السرية لغارسيا لوركا