02-سبتمبر-2015

سوزان عليوان (الترا صوت)

تتأسّس شعرية النثر عند الشاعرة اللبنانية سوزان عليوان (1974) إلى حدّ بعيد على ثيمة الحبّ. لا نقول إنّه ذلك الحبّ النمطيّ الذي نتلمسه في مدارس الرومانسيين بل يخيل للمتلقي أن الحب في قصائد عليوان هو الهاجس العاطفي القلق لناحية كيفية تقديم ذاتٍ دائمة الانكسار. نعم، ثمّة في الظاهر عدّة الرومانسيين المعجميّة إذ تكون الطبيعة، مثلًا، خيطًا متينًا في اللغة المستخدمة.

الحب في قصائد سوزان عليوان هو الهاجس العاطفي القلق لجهة تقديم ذاتٍ دائمة الانكسار

على أن الطبيعة، بمعجمها الحاضر بقوة في نصوص الشاعرة، لا تعكس إيجابية العاشقين ومتعة توقهم المفهوم للآخر بل هي امتداد للهاجس الأساسيّ الشكّاك وهي مساءلات متكررة لذلك الداخل الجسدي الهش. "حيث لا ارتواء/ واليأس فأس لا تَكْسِرُنا/ مثلما بأهدابنا نسافر/ بمجاز نهر أو سحابة"، "يتّسع الليل/ توقيع غامض لا أتبيّن رموزه"،"كنهار لا يكفّ عن النسيان نفسه/ سها عن صورتنا النهر/مهرولًا بركام مدينة" معطفك المتطاير في عاصفة عناق وسط مطار/ قميصي وقد نقلتُ إلى أكمامه/ قصيدة يديك الصامتة"، "في دكّان العطر/ وحدك الحواسّ/ وسط مكتبة عتيقة على شفا نهر/ خطوتك شجرة من أشباح شكسبير" (الحبّ جالسٌ في المقهى، 2014)، "وشوشة الشجر لشبابيك/ وابل من الوجوه/ على زجاج واجهات"، "بحجرات مسدلة/ في ستائر من الموسلين/ الأحمر الملوّح من وحل أحواض/ لمارّة لا يلتفتون/ لملوك على شرفات" (معطفٌ علّق حياته عليك، 2012).

تحافظ عليوان في مجمل أعمالها تقريبًا على شكل شعريّ واحد في الكتابة النثرية، إنها، غالبًا، نصوص موجزة. خفوت الجملة الشعرية ورقّتها، إذ يعكسهما ذلك الانكسار العاطفي، لا يساهم في توليد أي صخب لغويّ لفظًا أو معنىً. وإلى ذلك، فإن هذا النبر الخافت، الذي يستولي على المقطع الشعري يكون غطاء أو سطحًا لغليان داخليّ يتخلل المقطع الشعري. نعني تلك المساحات الشعورية التي تعكسها، في نفس القارئ، مجازاتٌ واستعارات جيّدة الصنعة أو تكراراتٌ جملٍ إسميّة أو صيغ استفهامية متوازنة.

"ماذا لو أنّ هذه النجمة/ عود ثقاب يتيم في يدي؟/ لو أنّ ما قطعناه من الدرب/ هو الدرب كلّها؟/ لو أنّ وجه من أُحبّ/ لا يعرف ويبتسم؟/ ماذا لو كانت هذه اللحظة/ حافّتَكَ أيّها العالم؟"، "الأقدار بأقنعة مدلّاة/ الأرض أيقونة تتلألأ/ أيعقل أن تكون خشبة خلاصنا/ هذا المسرحَ المثقوب؟"، "بسكّين/ أفْصُلُ صورتك عن خلفيّات المدن/ يتبعني عتب/ بملامحك وصوتك" (الحبّ جالسٌ في المقهى 2014)، "بغريزة الغرقى/ تتشابك يدانا/ برغبة الأزرق/ في أن يبقى سماء"، "هل يتيه شاعر/ في قاموس قلبه؟/ ماذا تقول شمعة/ لعود ثقاب؟/ وساعي البريد ذو الحقيبة المتأرجحة/ إلى متى يطارد الحمام/ على درّاجة/ في منام" "معطفٌ علّق حياته عليك" (2012).

اقرأ/ي أيضًا: الجبناء والتاريخ.. نظرات حول الحروب ودوافعها

لا يمكن فصل أعمال صاحبة "رشق الغزال" (2011) الأخيرة عن سياقات مطالع تجربتها النثرية، نعني تلك الأعمال الأولى التي بها صنفت من شاعرات جيل التسعينات النثريّ. وإلى ذلك، فعليوان ليست شاعرة مقلّة، ولا تبدو منسجمة مع تصانيف النقاد، بل تتفرد حتى في طرائق نشرها للشعر مبكّرًا عبر موقعها الإلكتروني، بطريقة هي في العمق ربما احتجاجٌ على آليات وتعاملات دور النشر مع الشعر والشعراء.

لا نقول إن مجموعة "كراكيب الكلام" (2006) هي نقلةٌ في تجربة عليوان إلا من جهة كونها ذروة في المزاج الشعريّ العام لنصوص الشاعرة وامتداداتها في النصوص اللاحقة، وتحديدًا "كلّ الطرق تؤدي إلى صلاح سالم" (2008)، نعني أنّها النضج الفائق للاستخدامات البديعية، والحساسيات التعبيرية التي صارت أبعد غورًا في النفس وأقل سكينة من أعمال سبقتْ. 

تحافظ سوزان عليوان في مجمل أعمالها على شكل شعريّ واحد

الكراكيب نصٌ يشبه الانتباه الحاد إلى ما في نفَس المعجم وكراكيبه من قابليّة لبناء تعابير مدهشة، لا تخرج بالضرورة عن سياق الهاجس الشعري العام لدى الشاعرة، بل إنه يجوهر التشابيه والصيغ الوصفية، إذ يسوقها في مقاطع أطول من سابقاتها إلى مكان كأنّه الخبرة التعبيرية التي ترسخت، أو إنها اكتمال لغة سن الثلاثين بدلالاته الرمزية.

"سورُ الثلاثينْ/ بأحجارِهِ التي/ من طيني ومن دموعي: الصورُ والكلمات/ المشاهدُ المحذوفةُ أيضًا/ الحجراتُ، فراغُ الأعماقِ/ المقاهي الكثيرةُ والمقعدُ الوحيد/ تلكَ الحقيبة، ذلكَ المعطف/ الأبُ الغائبُ./ المرأةُ المجهولةُ في طفولتي السوداء، أُمِّي/ شجرةُ العائلةِ العارية كهيكلٍ عظميّ/ غابةُ الأصدقاءِ البعيدة/ قصصُ العشقِ ذاتَ الأبوابِ الحزينةِ دائمًا/ رسائلُنا/ الأمكنةُ والمراحلُ/ والآخرون/ حياتي، تحتَ المطرِ، حائطٌ/ هل من عقابٍ/ أقسى من الزمنِ؟"، "أعلمُ/ أنَّ يدي/ ليسَتْ مِطْرَقَةً/ لكنَّني أحيانًا أتخيَّلُها/ تنهالُ كغضبٍ بلا نهاية/ مُهشِّمَةً رأسَ الفراغِ/ حيثُ الدَّمْعُ الحبيس/ والصرخةُ في المرآة"، "كراكيب الكلام".

بنظرة مجملة على الدواوين والأعمال تبدو عليوان متوحدة مع تجربتها الفنيّة نثرًا ورسمًا. الفرادة، كما "كائن اسمه الحب" (2001)، في هذا الحيّز، تكمن في هذا النوع من الرسم الذي يبدو أنّه يعكس ذلك الخيط الطفولي الرقيق بهذا النوع من التعبير. نذكر مثالًا "كائنٌ اسمه الحبّ" (2001). بكلام آخر، شعريّة التعبير هي هاجس الشاعرة الأساسي، وهو هاجس لا يبدو أنّه منفصل عن العيش اليوميّ على هذا النحو. إنها شخصية شعرية مكتملة، إذ لا حياة ولا تنفس في الخارج إلا حين يكون مندرجًا في الاستثمار الشعري الأول.

حضور شعري دائم ربّما واستثمار يدفعان الشاعرة للتنقل بين الدواوين في ما يشبه قراءات تقييمية، تقصي قصائد أوّلية بأكملها، أو تعيد دمج قصائد بأعمال لاحقة. نجد هذا المنحى في التعامل مع النتاج الشعري في تجارب شعراء مكرّسين، أدونيس مثالًا، وهي تقنيات غير محبذة في الغالب على المستوى النقديّ، كما في باكورة الشاعرة "عصفور المقهى" (1994) إذ لم تعد تعترف عليوان، في هذا الديوان، بأيّ من نصوصه ما خلا نصًّا واحدًا.

اقرأ/ي أيضًا: جمال الغيطاني.. عين السرد التي أُغمضت