29-أكتوبر-2015

عمل لـ جابر العظمة/ سوريا

يطرح في الغرب عنوة مفهوم "ما بعد الأزمة السورية". ليس في مفهومه الجيوبوليتيكي الصرف، بل في بعده الأبستمولوجي- الثقافي. وهو مصطلح سيستدرج على الأقل في السنوات العشر القادمة مشاريع بصرية ومعارض تركيب وتجهيز وافلامًا وشرائط كرتونية وكتبًا، تقوم على "ثيمات" مستوحاة من المذبحة السورية وحيوات ناسها. 

يتحول السوريين، وبشكل تصاعدي، إلى مادة دسمة لدى شركات الإنتاج الفنية العالمية

الطرح ليس من باب التفكير في تجليات "الشتات السوري"، وتنامي الهجرة غير الشرعية الى أوروبا، كما يوحي، بل بحث في اكتشاف نتاج ثقافي جديد، على شاكلة ما هو مستهلك من مرحلة "ما بعد سقوط جدار برلين"، وزمن احتلال العراق، وما بعد 11 ايلول. وستستند مرحلة "ما بعد سوريا" في مراجعها وتكوينها على وقائع وشهادات وسير وحكايات من مهاجرين أو عائلات القتلى أو من سجناء ومعتقلين، وعلى الأقل من هواء الموت السوري ومرارة الحرب ومأساتها.

اقرأ/ي أيضًا: تون هيرمانس.. تدفئة القلوب بالضحك

وهذا هو الحال لما صار يعرف في أوساط التمويل الثقافي لمشاريع الفنانين، على أنه قراءة لأزمات العالم. ويبدو أن الأزمة السورية التي ستطول مبدئيًا، والهجرة الى أوروبا المشغولة بأعداد الوافدين، أكثر المواضيع تأثيرًا وحضورًا، بوصفها ذات قيمة إنسانية يمكن للفنانين التركيز والاشتغال عليها، كحيزات منفصلة. لا سيما أن الأوروبيين بعد صورة الطفل أيلان، أمسوا أكثر تعاطفًا مع قضية اللاجئين الهاربين من أتون الحروب ومذابح المقاتلين الجوالين، والموزعين على الحدود المسيجة وخطوط القطارات، لتغدو صورة الضحية وخطابها هي الأكثر جاذبية لتلك الأوساط.

ستنتج المرحلة فنونًا أشبه ما ستكون "توثيقًا" تراجيديًا لملحمة "المجازر السورية" المرتكبة، من الديكتاتور ونظامه وشبيحته و"الفرق" الطائفية الموزعة، بين المحافظات الموغلة تفكيكًا وتدميرًا، مرورًا بفجاعة أعمال "تنظيم الدولة الإسلامية" وانتهاكات جبهة "النصرة" و"أحرار الشام"... وطبعًا وليس أخيرًا، ستكون الأعمال المنتظرة توثيقًا خالدًا لمرحلة ما بعد سوريا، اذا ما تم باكرًا إتمامها، خلال السنوات العشر الآتية، على أنها صورة العالم المتوقعة أو الممهدة لـ"حرب كونية" ثالثة، من المفترض أنها أندلعت بسياسة محاور "غير معلنة". 

الحال أن السوريين يتحولون، وبشكل تصاعدي، إلى مادة "دسمة"، سيعمد مدراء المعارض العالمية ومراكز الفن المعاصر وممولي المشاريع البصرية وشركات الإنتاج السينمائي (المستقل تحديدًا) إلى وضع خطط تستوعب الخطاب الفني المستجد. وسيعملون على إيجاد حركة فنية معاصرة مضادة، وتثبيتها كتيار نهضوي يحاكي الأخلاق ومفاهيم الأنسنة أو عدمها. ليكون الدم والقتل والعنف، والتهجير الأثني والعرقي والطائفي، جزءًا من موضوعاتها ولغتها. وسيكون حتمًا ترسيخًا لما ستثبته عمليًا مفاعيل الأزمة في تشظياتها، وقدرتها المحكمة على تفكيك علاقة الشرق والغرب، وإعادة صياغتها وفق "الهجرة السورية" والتوزع الديموغرافي الجديد. 

يجري العمل على خطاب يمكن أن يسمى "هويات الهجرة الجديدة"، لتكون كيانًا ثقافيًا يتحول إلى مصدر انتماء للمهاجرين

خصوصًا أن الحديث يتزايد عن "استيراد" ثقافة اللاجئين ودمجها في المجتمعات الأوروبية المنوعة، لنرى أنفسنا أمام ضحية جديدة في أوروبا ذات مركزيّة مشابهة لتلك التي شهدتها القارة العجوز إبان الحرب العالميّة الثانيّة، خطاب يمكن أن يسمى "ما بعد الهجرة" أو "هويات الهجرة الجديدة"، لتكون كيانًا ثقافيًا يتحول إلى مصدر للانتماء لهذه الأقليات الوافدة، عوضًا عن انتماءاتها السابقة التي ساهمت وتساهم آلات الموت على تفكيكها.

الطرح ليس خيالًا. وهو أكثر ما يكون رؤية واقعية لمستقبل الفنون، أو للتحديد، "ثيمة" الفنون المقبلة. وبات الأمر يستهوي أروقة الفاعلين في الأوساط الثقافية، الذين يؤكدون بحثهم عن لاجئين فنانين سوريين ومساعدتهم في استكمال مشاريعهم الفنية، على أن تتضمن "المأساة". وتخصص لهم منحًا وسكنًا على شاكلة ما تم فعله مع فناني العراق بعد حرب الخليج، وهو ما أنتج فعليًا تيار الفن المهاجر. 

اقرأ/ي أيضًا: الحياة العاطفية للفلاسفة

ولا يمكن استثناء دور النشر الراغبة في توثيق والكتابة وتسجيل شهادات عن السوريين وتعايشهم مع حربهم. وهو معيار يأخذ اهتمامًا كبيرًا في أولوية النشر، خصوصًا فن الرواية. إذا ما قيس بأنواع الأعمال الأدبية الأخرى. وأيضًا في فن "الكومكس"، الذي يعول عليه كثيرًا في إستمالة الأعمار اليافعة. سيما أن هذا النوع، يؤسس لحكايات مصورة سهلة وتحمل دلالات أكبر من الكتابة نفسها، وتختزن قيمة توثيقيّة تحاكي التاريخ أو تعيد إنتاجه.