25-أبريل-2016

شهلا العجيلي (خير الدين مبارك)

من مدينة حلب أواسط القرن الماضي، تبدأ الروائية السورية شهلا العجيلي رحلتها الروائية في "سماء قريبة من بيتنا" (منشورات ضفاف)، ناقلة صورة من حياة تلك البقعة السورية وتراثها الغني، واقتصادها المزهر، فضلًا عن جزء مهم من عوالمها السياسية التي كانت تشهدها وانعكست على معالم الحياة فيها. 

في رواية شهلا العجيلي، الخرائط الممزقة تؤسس لحالة التذكر الدائم 

الرواية الثالثة للعجيلي تبني أحداثها على ركني الماضي والحاضر، متقلبة بين دفتي زمنين يختلفان ظاهريًا ويقتربان من حقيقة الخرائط الممزقة التي تؤسس لحالة التذكر الدائم، الذي تقوم عليه الرواية على ألسنة شخوصها. تختار الكاتبة بطلتها جمان بعناية فائقة، فهي الأستاذة الحاصلة على دكتوراه في الأنثروبولوجيا الثقافية، والتي ترعرعت في بيت جدها في حلب، وتلقت ثقافتها هناك، لترسم روايتها، عبر تنقل جغرافي واسع يمر دوما في الرقة التي جعلتها محطة البدايات والنهايات، تلك المدينة التي ضاعت بيد التنظيم الإرهابي داعش، راسمة معالم المأساة لمصائر الكثير من سكانها، بما ينعكس على مأساة شعب كامل ضاع بين نظام مستبد، ومؤامرات كبرى فرضتها دول استعمارية قديمة، بما يرسم وجهًا مشابهًا لذاك الاستعمار الذي كان حاضرة بقوة في خرائطنا العربية الممزقة، ودول أخرى أنهكها الاستعمار نفسه بين آسيا وأمريكا الجنوبية وأفريقيا، لتصبح تلك الأمكنة منصات للانطلاق في حديث عن تاريخ يعيد نفسه بأشكال تقترب وتبتعد لكنها ترسم نهاياتها المأساوية عينها.

اقرأ/ي أيضًا: عطارد.. القتل من وجهة نظر قناص الداخلية

بين جمان بدران وناصر العامري، تتكون حكاية المنفى التي تحملها الطائرة إلى أوطان غريبة، حيث تصبح الطائرة محطة الغرباء، أولئك المعلقون بين السماء والأرض، لا يعرفون لهم وطنًا، جميع أوطان الشتات أوطانهم، جميع المنافي تحملهم على الأمل.. أمل العودة.

ولعل الصدفة هي ما فضلته العجيلي لتجمع بين أبطال منفاها، فبطلها الفلسطيني ناصر الذي لا يعرف وطنًا، حيث تقلب بين الأمكنة راحلًا في منحدرات المنافي بين حيفا وبيروت، حلب ثم عمان، وصولًا إلى دبي، ومنها إلى كاليفورنيا.

هذا الشتات الذي يقارب الشتات السوري الذي مثلته جمان القادمة إلى عمان، والمصابة حديثا بسرطان الغدد الليمفاوية، التي زادت غربتها فلم تجد ملجأً لها إلا ناصر. ناصر الذي زار حلب كثيرًا بحكم أن أمه ابنة أحد وجهاء المدينة بهجت بك الحفار، يعود بجمان وتعود به إلى تلك المدينة، حيث يبدأ رثاء المكان الذي شهد ماضيهما الجميل وشهدا حاضره المدمر.

هنا يبدأ السرد الذي يستدعي بداية تاريخ عائلة من عوائل المدينة العريقة، لينتهي بذاكرة وطن كامل في تقاطع ملفت بين حكائية شخصية وقصص عامة، تلتقي فيه أفكار الموت مع الحياة، والرغبة الحاضرة المتناقضة بالإثنين معا في آن واحد.

في "سماء قريبة من بيتنا" حالة الشتات التي تعيشه الشخصيات الروائية كنموذج لشتات شعب كامل

البحث عن المكان، بين ماضيه المتمثل في البيت وذكرياته الجميلة الغابرة، والمقبرة التي تصبح مكانا تفكر فيه الراوية جمان على اعتباره مأوى أخيرًا وملاذًا مناسبًا للهروب من مرض قاتل كالسرطان، لتتشكل بين مكاني جمان أمكنة تولد شغف الباحثة في جغرافية الأوطان التي تتولد منها جغرافية ذهنية ونفسية قل ما ينتبه لها أحد، تلك الجغرافية التي جعلتها تتخصص في الأنثروبولوجيا المقتربة التي تعتبر جغرافية الشعوب.

اقرأ/ي أيضا: مصائر.. رواية بأجوبة مستعملة

يتنقل السرد بين النكبات والمآسي تنقلًا محفوفًا بالشتات والمنافي، بدءًا من عام النكبة 1948 وصولًا إلى سني المأساة السورية التي حملت نصف شعب سوريا على الهجرة بحثًا عن أمنه في المنفى. 

التعب، المرض، أفكار الموت والحياة والهجرة القسرية التي وفرتها المأساة السورية المشابهة لشقيقتها الفلسطينية، مهدت لحديث طويل عن ذكريات جميلة وبيوت قريبة من السماء، تصنع أمكنة خاصة بشخوص الرواية المتقلبة على جمر الانتظار، الذي لا يمنع التفكير بالحياة والرغبة بها، وصولًا إلى الخلاص من مرض السرطان الذي شفيت منه جمان أخيرًا.

وكأن الرواية بنهايتها تلك، أبت إن تمنع الأمل عن قرائها، بفتحها لثقب حياة يمر منه نور إمكانية الاستمرار رغم المآسي، شفيت جمان من مرضها، وظلت معلقة في المنفى بانتظار عودة قريبة إلى ذلك البيت القريب من السماء.

"سماء قريبة من بيتنا" رواية أمكنة بامتياز، تضفي على المكان طابع شخصية فرضت نفسها بقوة في سياق السرد، وامتدت بين خرائط عدة بدأت في سوريا، وتنقلت في دول أخرى ممثلة معظم القارات، بما يعكس حالة الشتات التي تعيشه الشخصيات الروائية كنموذج لشتات شعب كامل.

اقرأ/ي أيضا:

مديح لنساء العائلة.. العشيرة تدخل الحداثة

حارس الموتى.. لو لم تحدث الحرب

نوميديا.. سرديات من المخيال الأمازيغي