وهران، أو "الباهية" كما يطيب لأهلها أن يسموها، عاصمة الغرب الجزائري، وثاني أكبر مدن البلاد، مدينة جميلة تنام على ساحل البحر الأبيض المتوسط، يعد ميناؤها من بين أشهر موانئ الضفة الجنوبية للمتوسط، مما جعلها قطبًا اقتصاديًا وحضارياً منذ القدم. وهو ما اختصرته ديانا ويلي، أستاذة التاريخ في جامعة بوسطن حين قالت "وهران تمثل بداية لمفهوم العولمة، ففيها ما يكفي من شواهد اختلاط الحضارات منذ العهد الوسيط".
تقول ديانا ويلي، أستاذة التاريخ في جامعة بوسطن:"وهران تمثل بداية لمفهوم العولمة، ففيها ما يكفي من شواهد اختلاط الحضارات منذ العهد الوسيط"
قصة مدينة وهران، تداول على كتابتها الكثير من الأعراق والأجناس، وتوالت على حكمها العديد من السلالات، والتي تركت، كل واحدة منها، بصمة في الفسيفساء التي تشكل الوجه الحالي للمدينة، فتأسيسها يعود إلى التجار والبحارة الأندلسيين والمغاربة في بداية القرن العاشر ميلادي، واللذين جعلوها نقطة وصل لتجارتهم صوب ضفتي المتوسط، ثم قام الإسبان باحتلالها في بداية القرن الرابع عشر ميلادي، إلى أن تم طردهم من طرف العثمانيين الذين دخلوا المدينة نهاية القرن السادس عشر، ثم استعمرها الفرنسيون كسائر تراب الجزائر بداية من عام 1830.
استمدت المدينة اسمها من كلمة "إهران"، والتي تعني "الأسود" باللغة الأمازيغية، فمن يزور مدينة وهران للمرة الأولى، يلفت نظره تمثالين لأسدين متربعين على الساحة الرئيسية للمدينة، هذين الأسدين تحوم حولهما عديد الأساطير. تقول الأسطورة إن الحياة تدب في المنحوتتين كل ليلة ليتحولا إلى أسدين حقيقيين، يصولان ويجولان في أزقة المدينة التي تكون قد خلت من الناس.
ويقول أحد شيوخ المدينة: "لهذين الأسدين قصة قديمة، فلقد رافقا "جعفر"، ذلك الشاب القرطبي الوسيم، الهارب من سلطة أبيه في الأندلس بعد أن أراد تزويجه بفتاة لا يحبها". في الحقيقة، القصص كثيرة عن وهران، وهي محفورة في جدرانها، وشوارعها، وفي نفوس أبنائها.
المتجول في شوارع وهران يلاحظ من الوهلة الأولى هذا الزخم الحضاري، الذي كان نتاج تعاقب الحضارات عليها، فبنايات المدينة تجمع بين طرازين، طراز قديم ورثته المدينة عن الإسبان، بنايات يطغى عليها الشكل المعماري الأندلسي، وبنايات حديثة راجعة إلى الحقبة الاستعمارية الفرنسية، مزيج قال عنه روبير دوازي، المعماري الفرنسي: "أمامي مشهد واسع من المعالم، لو خصص لها ما يكفي من الإمكانيات لاستطاعت أن تضاهي مرسيليا وبرشلونة، وتصبح قبلة لسكان المتوسط".
وهران، هي أيضا مدينة "سيدي بومدين"، أحد أشهر المتصوفين في الجزائر، يقع مقامه في أعلى الجبل، يحرس المدينة وأبناءها، وقد قيلت فيه الكثير من الأشعار، وأنشدت له الأناشيد والأغاني. يحافظ سيدي بومدين على قدسيته عند عجائز وشيوخ المدينة، ويشكل مقامه مزارًا للكثيرين للتبرك به.
لن تكتمل متعة زيارة وهران، دون المرور على جبل "المرجاجو"، حيث حصن "سانتا كروز" الذي بناه الإسبان، لا يزال شامخًا يحكي للقادمين حكاية وهران، ويقلب دفاتر التاريخ، لقد انبهر جميع من دخل القلعة، بفنائها الواسع وشرفتها المطلة على البحر، ودهاليزها وأنفاقها السرية المربوطة مباشرة بالمرسى، كما تجذب الكنيسة المبنية أسفل الحصن عقل الزائر، وينبهر بتلك الطريقة التي شيدت بها القلعة مما جعلها تحتفظ بتماسكها رغم مرور قرون على تشييدها.
تعتبر وهران منطلقًا لفن "الراي"، هذا اللون الموسيقي الجزائري الذي وصل إلى العالمية منذ بداية التسعينيات
ساهمت الثقافة أيضًا في شهرة مدينة وهران في ربوع العالم، فاسم المدينة يذكر مع كل أغنية "راي" تسمع، فلقد كانت المدينة منطلقًا لهذا اللون الموسيقي الجزائري الذي وصل إلى العالمية، فلقد اشتهرت المدينة بـ"شيوخ الوهراني"، الذين كانوا أيقونات في الشعر الملحون، ليتطور هذا الطبع الموسيقي مع الزمن وتظهر موسيقى الراي، لتصل بداية التسعينيات إلى العالمية على يد الشاب خالد، رشيد طه، الشاب حسني وغيرهم.
من "الصديقية" إلى "حي الدرب"، مرورًا بكل زقاق يفوح منه عبق التاريخ، تحتاج مدينة وهران وتراثها وتاريخها إلى عناية أكثر، فمعالم المدينة صار من المستعجل ترميمها وبعث الحياة فيها، بالتوازي مع الشكل الجديد الذي بدأت تتخذه المدينة مع البنايات الشاهقة وناطحات السحاب، وصار من الضروري أن تولي السلطات أهمية أكبر لهذه المدينة التي كانت ولا تزال تصنع الحياة، لكن المدينة بدأت تفقد شيئًا من تاريخها، لقد صارت عبارة "يا حسرة على وهران" تنفلت من أفواه أبنائها كلما تحدثوا عن "الباهية".
اقرأ/ي أيضًا:
عين الفوارة... عادوني يا ماليا
غرداية... الوجه الأزرق الساطع للجزائر