12-يوليو-2022
ماركيز دي ساد

ماركيز دي ساد

مع اقتراب الرابع عشر من تموز/ يوليو، كلما حلّت تلك الذكرى، تحضر أمامي صورة ذاك المحتجز أمسها بين جدران الباستيل، يصرخ في فوهة القُمع القذر، الذي لم يكن يرتاح في يده إلا حين تُلِّح ضرورة عودة الأداة القصديرية إلى وظيفتها الطبيعية؛ تفريغ مزيج الماء الآسن والبراز في الساقية الضيقة الممتدة خارج جدران الزنزانة. "أنقذونا! إنهم يقتلون المساجين!". ماركيز دي ساد يصرخ، مستعملًا القمع كمكبر صوت، والصيحات تتوالى على آذان الجماهير الصماء خارج جدران القلعة.

كيف لا يكون ساد ثوريًا وهو الذي ترأس "مجموعة الرماح" ، أكثر خلايا الثورة الفرنسية راديكالية وأكثرها عنفًا؟ كيف لا يكون ساد وجهًا للثورة وهو الذي وقف مؤبنًا عراب "أزمنة الرعب"، جان بول مارا

هي ذي اللحظة التي من أجلها قضى سنوات سجنه، يخطُّ لرفاق المعتقل حكايات تلهب اشتهاءاتهم، ويغرق هو الآخر في عمق الجحيم الذي أخرج منه "120 يومًا من سدوم" على قصاصات الورق تلك الملطخة ببقع الدم والقيء. لا لشيء، إلا ليرى كتل اللحم المتموجة هذه عبر جدران زنزانته تنتفضُ نصرة لأجسادها، لا لجسد أي رب أو ملك، وهي ذي تنتفض في "ثورة فرنسية".

هنا، قد تفاجؤك فكرة أن ساد "لم يكن ساديًا" بالمعنى الاصطلاحي الشائع الذي اشتق من اسمه بعدها. بل وعن تقصير مجحف أو جهل، يصر هذا الربط على تقزيم المتن السادي، وجذع أكثر عناصر ذلك المتن حيوية، أي اتساقه مع ما كان يجري تزامنًا وفي شوارع البلاد. كما التمنع في خجلٍ عن ذكر أن الثورة تدين لحلمه الطوبوي المسرف في اشتهاءاته الملعونة، بذات القدر أو أكثر، مما تدين به لأخلاقيي الأنوار وآباء نظريات فصل السلط السياسية.

والمؤسف أن تسقط قراءات من العمق الذي أتت به "الأدب والشر" في لوثة هذا الإجحاف، وأن يجلل صحبها جورج باطاي، المدّعي وراثته ساد في القرن العشرين، يجلل ذلك الموروث بكل تلك التهم المثالية. لم يكن ساد مثاليًا كما صوَّره صاحبنا، كما لن تشفع له الديباجة البهيجة التي افتتح بها الفصل الذي خصَّ به الماركيز، مقتبسًا من سوينبورن قوله: "في وسط هذه الملحمة الصاخبة الإمبريالية نرى لهيب ذلك الرأس المصعوق، وهذا الصدر الواسع المحروث بالبروق، الإنسان الفالوس (القضيبي)، هيئة جليلة وصلفة، تكشيرة عملاق مرعب وسامٍ؛ كما نشعرُ بدوران تلك الصفحات الملعونة وكأنها رعشة اللامتناهي، تتذبذب من فوق الشفاه المشتعلة وكأنها نفحة مثال متكبر"، (لن تشفع له) خطيئة الجزم زاعمًا بأن: "معنى الثورة لم يكن حاضرًا في أفكار ساد؛ بأي معيار، إذ لا يمكن  اختزال تلك الأفكار إلى حد الثورة" (الأدب والشر، صفحة 108).

من الناحية العملية، كيف لا يكون ساد ثوريًا وهو الذي ترأس "مجموعة الرماح" (Section des Piques)، أكثر خلايا الثورة الفرنسية راديكالية وأكثرها عنفًا؟ كيف لا يكون ساد وجهًا للثورة وهو الذي وقف مؤبنًا عراب "أزمنة الرعب"، جان بول مارا، رفيق روبيسبيير المقرَّب وصنوه في خط تلك الأزمنة التي قضت مضجع أعداء الثورة؟ كيف يكون أدب ساد منفصلًا عن الثورة، وهو الذي خط من خلاله قائلًا: "ندين لك بالحرية التي منحتنا (…) أنت مارا الذي اتهموك بأنك متعطش للدم، إن هي إلا دماءهم، هم الطغاة، التي كنت متعطشًا لها". (خطاب ماركيز دي ساد في تأبين جان بول مارا، ملحق رواية "جرائم الحب"، طبعة بروكسيل 1881).

حقيقة، "ليست السادية إلا المضمون الفج من كتابات ماركيز دي ساد" ("ساد، فورييه وليولا" رولان بارط، صفحة 170)، أوافق بارط في هذا القول بالكيفية التي تعكس معناه، مقحمة السادية لا فقط كأكثر أعضاء متن ساد حيوية، بل هي الثورة في حد ذاتها؛ طامحة لفضاء الحريَّة الرحب، حيث لا قانون سوى ما يخطه العضو المنتفض، الشفاه المتهدلة من سهاد جحيم اللَّحم السائل، والعيون الجوعى إلى رعب اللَّحظة الدامية والعطشى للعقة الرعب اللذيذ متسحبة على طول العمود الفقري.

لا مقدَّس في متن ساد سوى هذا الفضاء الغرائبي من النشوة اللزجة، التي تجلل صاحبها بما يراه الآخرون عار الانحطاط إلى جرم اللهاث الحيواني. إن هي إلا اعتبارات العالم القديم، حيث اللحم خبز الرّب والدماء نبيذه، والجسد ملك المليك المعزز بالحق الإلهي، والجوع سمة كما الحظوة والجاه تنتقلان من جيل لآخر عبر خيط السائل الأرجواني.

من هذا وصيات البيان اللبريتاري الشهير لقارئيه "ألا ينصتوا إلا لشغف المتعة، عضوها الوحيد القائد نحوَ السعادة"، وللسيدات أن "يحتقرنَ كلّ ما يعارضُ الشرائع المقدسّة للذة، تلك التي أخلصت لها الحياة كلّها"، وللسادة الفساق حيث "ليس إلا بحرق كلّ شيء على مذبح اللذة، هذا الكائن الحزين الحامل ثقلَ اسم الانسان، هذا المقذوف به رغمًا داخل العالم التعيس، يفلحُ أخيرًا في قطف وريدات معدودة عن شوك الحياة" (الفلسفة في المخدع، ماركيز دي ساد 1795) ، تكتسب صفة التنظير للقفزة الاجتماعية المهولة التي تمخضت عنها فرنسا سنة 1789؛ من جانب أنها لا تسقف الحرية التي كانت مطلب الطبقة الثائرة وقتها، ومن جانب أنها تؤسس لنظام اجتماعي وأخلاقي جديد بدفع مطالب تلك الطبقة إلى أقصى تمثلاتها.

تؤكد الفلسفة السادية على فردانية الشخص ومادية العلائق التي يربطها مع غيره ومع الواقع، بهذا تقدّم من منظورها البورجوازي الثوري جوابًا صريحًا لخطاب الخديعة

وتؤكد الفلسفة السادية على فردانية الشخص ومادية العلائق التي يربطها مع غيره ومع الواقع، بهذا تقدّم من منظورها البورجوازي الثوري جوابًا صريحًا لخطاب الخديعة، الذي كان يغلف تلك العلائق في ماضي العصور الوسطى بغطاء الدين المبطن باستغلال سياسي واقتصادي، بهدف تأبيد سيادة الجبر الأرستوقراطي على البورجوازية الطافرة لقرون حاملة أنوار التحول بوعيها النظري والممارسي وقتها. هذا بعد أن تأكَّد من قصور عودة هذه البورجوازية نحو التدين المفرط، في البروتستانية، على إيصالها للتحرر، وأن أقصى ما ستؤول إليه الحروب الطائفية الممتدة لما يفوق العشرين عقدًا هو تحالف القوى الدينية الجديدة مع القديمة ضد الشعب. في تلك اللحظة جلجلت ضحكته الساخرة من تلك الأزمنة في رواية "جرائم الحب"، منتصرًا لما يطمح إليه: الجسد الفرد الحر.

وفي الفضاء السادي الملتهب، لا يعاد ترتيب الأدوار الاجتماعية فحسب، بل تفكك الأشكال القديمة لتلك الأدوار وفق نظام اللعب الذّي الصاخب، حيث تنصهر كل الأجساد في لجة فعل الاختراق المحموم، لا فرق بين ثغر وثغر، لا سيادة قبلية لأحد فيها على آخر، كما لا شكل محدد قبليًا لمنحى اللّذة، تضمحل ضرورة وجود موقع تطلب منه اللذّة وتنسحق هذه الضرورة تحت عجلة اللهاث المستمر. بتعبير آخر، والقول هنا لرولان بارت، "ففي ساد، الذكور (خارقون، مخترقون، خدمًا، هراقلة) لهم مهمة ثانوية: سواء كانوا ضحايا أو شهوانيين، لا منفذ لهم إلى اللغة (غالبًا ما يشار لهم بتلك الصفة فقط لغرض التعيين) وبالكاد ينفذون إلى الجسد (عبر عدد اللّعقات التي يمنحونها أو ما يقذفونه من مني): لا فحولة ولا أساطير". ("ساد، فورييه ولويولا" رولان بارط، صفحة 169).

والمرأة؟ يجيبنا بارت ثانيًا، تدخل اللّعبة الشهوانية التي تعيد تشكيل جسدها إلى كائن "لا جنسي" (asexuel)، في عملية أشبه بالجراحة التجميلية، تبتر الأثداء الغضَّة، وترتق الشفاه المتهدلة، وتسلخ البشرة الناعمة عن لحم الحرارة السائلة؛ تخرج هذه الأعضاء من اللغة، ولا يصبح الفرج أو الثدي يملكان من وظيفتهما سوى الاسم. هنا يبلغ الانحراف (La perversité) أقصى تمثلاته، كامنًا في عكس العملية، أي جعل هذا الكائن اللاجنسي موضوعًا للذة الجنسية والذي يكسب داخلها حريَّة لعب أي دور يناط به (ذكرًا/ أنثى، خارقًا/ مخروقًا).

كل هذا يعارضه باطاي، بل ويعيب حتى على كلوسفسكي تريخانيته الهيغلية (في دراسة "ساد والثَّورة")، سواء اتفقنا مع كلوسفسكي أم لا في استنتاجاته (المجانبة للواقع في نظري وفي نظر الكثيرين) حول "طوبوية الشر" (l'utopie du mal)، أو المواقف السادية بشأن الجموهورية والدين.

يذهب باطاي بعيدًا في تحامله عليه مستنجدًا بقول بولهان: "أتساءل مع نفسي حينما أرى العديد من كتابنا اليوم، الواعون تمامًا برفضهم للمصطنع وللعبة الأدبية، لا يدعوننا ننسى أصلها الإيروسي والمرعب، فهم يغتنمون أي فرصة لاتخاذ موقف يتناقض مع الخلق، وينشغلون بالبحث عن المتسامي في ما هو منحط، والعظيم في ما هو تخريبي، ويصرون على القول بأن كل عمل يلزم ويفسد إلى الأبد مؤلفه... أتساءل أن لم يكن من الضروري الإقرار في مثل هذا الرعب المتطرف، بأن الأمر يتعلق بالأحرى بذكرى أكثر من تعلقه بدعوة، أو يتعلق بذاكرة أكثر من تعلقه بمثال" (الأدب والشر، صفحة 116). هكذا يخلص باطاي إلى أن قول بولهان يحدد بدقة موقف ساد؛ أي المتن السادي منفصل تمامًا عما يحاول الواقعيون إقحامه فيه من تجاذبات تاريخية.

ويؤكد باطاي ما ينزع إليه بصراحة، حينما يعترف أن "ما يميز ساد عن السادي العادي، أنه لا يفكر، كان يتطلع بوعي واضح يطال الهيجان"، ذلك "لأن الهيجان يؤدي إلى فقدان الوعي". ويترك (أي الهيجان) المجال إلى الإيروسية كـ"تجربة داخلية"، كما يعرفها صاحب السيدة إدواردة، وإلى ساد ليتمثل كشخص مهووس بـ "حساب إمكانية تدمير الإنسانية" في سبيل وصوله إلى "الانهداد" الذاتي (النشوة بمعنى آخر)، في هذه الفوضى الجنسية "باعتبار هذه الفوضى كائنًا محددًا، تجعل الكائنات تنزلق سلفًا في اللامتناهي، أي الموت". (الأدب والشر، صفحة 118/ 124).

هنا، وفي مستوى أول من قول باطاي، يبلغ من الصلافة حد محاكمة ساد أخلاقيًا، حين يصوره في شكل همجي هائج "فاقد للوعي" هوسه "تدمير الإنسانية". كيف لا وهو (أي باطاي) الذي يحاكم نفسه في ذكرياته الغائمة عن "حكاية العين"؛ حين يتبرأ من مقلة القسّ المحدّقة من أست سيمون المنتشية، تارة بمشاهد مستوحاة من كتابات همنغواي وتارة بحادث مميت "وحيد" شهده في حياته، ليقدم بعدها اعتذارًا رسميًا كون كاتبنا "الإباحي" ليس إلا ضحية صور متوارثة عن معاناة الأب المُسفلس وقصص مروية عن أصدقاء أطباء، وفزع من شبح يرتدي شرشرفًا في ظلام خرابة. (حكاية العين، صحفة 73/ 78).

يعترف باطاي أن "ما يميز ساد عن السادي العادي، أنه لا يفكر، كان يتطلع بوعي واضح يطال الهيجان"، ذلك "لأن الهيجان يؤدي إلى فقدان الوعي"

على مستوى ثانٍ، ما فتئ باطاي يقرأ ساد بعين تعريفه المثالي للإيروسية، كـ "إقرار للحياة في الموت"، رغم تعزيزه هذا التعريف باقتباسات من المتن السادي ("الإيروسية"، صفحة 19). وبنحو أبسط، ما يود صاحب "السيدة إدواردة" إثباته؛ هو أن الإيروسية تختلف من حيث طبيعة مطلبها عن وظيفة الجنس اليبولوجية، وهي عند امتناعها عن طلب التكاثر موتٌ يقر "محرك الحياة" الجنسي. عند هذه النقطة، لنطرد قليلًا الافترض المغري بأن باطاي يراهن على سذاجة القارئ للتصديق في جملة، مهما جاهد في التدليل عليها، لا ربط بين عناصرها سوى المجاز. مقابل ذلك، وفي تعريف كهذا، يقترف ذنب تلافي العلاقة الجدلية بين الاستهيام الإيروسي والتكاثر الجنسي، وأن الأول بينية فوقية لبنية تحتية هي الجسد لحمًا ودمًا وأعصاب، أن الأول مركب ثقافي لإعادة إنتاج لحظة تحقق الضرورة البيولوجية.

ويصبح باطاي أقرب إلى شيخ طريقة منه إلى مفكر (طريقة "الإنسان الأخير" حسب التوصيف النيتشاوي)، حيث يجتث الجسد من مركزيته ومحوريته داخل العملية الإيروسية، وبالتالي تصبح هذه العملية تجربة داخلية روحانية (Mystique). ومنه كذلك تصبح واضحة الخلفية التي من أجلها اقتلع باطاي ساد لحظته التاريخية، وقزَّمه بجدع أكثر أعضاء فلسفته حيوية وثورية.