02-فبراير-2022

كاريكاتير لـ رأفت الخطيب/ فلسطين

شكا محرر في مطبوعة ثقافية من أنه لا يستطيع، إلا بشق النفس، أن ينجز موضوعًا واحدًا كل بضعة أشهر، إذ "كلما اتصلت بكاتب أو ناقد طارحًا عليه سؤالًا يتعلق بقضية أدبية أو فكرية أسمع العبارة الاستنكارية نفسها: وهل هذا وقته؟". ويقول المحرر إنه، شيئًا فشيئًا، صار مسكونًا بإحساس بالتفاهة ممزوج بشعور حاد بالذنب، "لقد بدوت كمن يلهو بأشياء سخيفة ويمارس ضربًا من الترف في وقت تلتهم فيه النيران الأخضر واليابس، ويموت المئات من الناس يوميًا قتلًا وبردًا وجوعًا وغرقًا". وثمة سؤال بات هذا الصحفي يكرره بطريقة وسواسية: "هل يجوز الحديث، في موسم الموت العبثي هذا، عن الثقافة، عن الشعر، عن الرواية، عن السينما".

معظم اليائسين والمعتزلين يختزلون كل ما يجري في عامل وحيد: الثقافة. فالثورات والحروب وصعود التطرف.. هي مسألة ثقافة أولًا وأخيرًا!

كثر من المثقفين أجابوا بالفعل عن هذا السؤال، إما بالصمت التام، أو باعتزال الثقافة والانخراط في قضايا الساعة السياسية.

مفكر معروف أعلن صراحة أنه، وبعد عقود طويلة قضاها في الكتابة عن تجديد التراث والحداثة والنهضة الثقافية.. لا يجد الآن ما يقوله، فـ"أمام الوقائع الدامية الصلبة لا شيء يمكن أن يقال". مفكر عربي آخر اعتذر عن عدم ظهوره في إطلالته التلفزيونية شبه الدورية، شارحًا أنه لا يجد "كلامًا يرقى لمستوى هذا الواقع الجحيمي"، ولا يمكنه أن يعثر على "نظرية أو فكرة أو مقولة تستطيع تفسير ما يحدث فضلًا عن كيفية تغييره".

اقرأ/ي أيضًا: الثقافة المعقّمة والتطهّريّة

هذان مثالان من بين أمثلة كثيرة، فالمثقفون الصامتون كثر والمتحولون إلى الكتابة السياسية أكثر. ولكن ثمة مفارقة هنا: معظم اليائسين والمعتزلين يختزلون كل ما يجري في عامل وحيد: الثقافة. فالثورات والحروب وصعود التطرف.. هي مسألة ثقافة أولًا وأخيرًا، ووفق هؤلاء فقد "وصلت الثقافة العربية إلى نهاياتها الطبيعية، وبنيتها الراسخة القائمة على ضيق الأفق واللا عقلانية والخرافة ونبذ الآخر.. قد انفجرت أخيرًا بفعل محفزات خارجية لتصنع كل هذا الدمار".

من جهة، فإن "الثقافة المفوتة" هي النظرية التفسيرية الوحيدة لما نعيشه من اضطراب، ولكن من جهة أخرى فهذا ليس وقت الحديث في الثقافة. كيف يستوي الأمر إذًا؟!

لحل هذا التناقض لا بد لنا من إلقاء نظرة على مفهوم هؤلاء عن الثقافة. إنها باختصار "الموروث الجامد الذي وصلنا جاهزًا ومكتملًا.. نظرة سحرية للعالم، وجفاء تام للعقلانية، وتغييب لحرية الفكر والرأي"، وكذلك فالثقافة هنا هي "ثقافة الجماهير المتخلفة"، لا ثقافة النخب والحكومات ودوائر القرار. وبما أننا أمام ثقافة جماهير تسودها الأمية والجهل وسيادة التقليد والعادات البالية الآسرة، فإن التغيير يبدو مستعصيًا، والنخب الثقافية (الطليعية والتقدمية والاشتراكية والليبرالية والعلمانية..) تغدو ضحية لمهمة نبيلة ولكن مستحيلة، الشيء الذي يعطي مسحة تراجيدية ملحمية لدور المثقف (ثمة الكثير من المثقفين ممن يستسلمون لإغواء هذه الصورة ويجدون فيها عزاء لإخفاقهم وعزلتهم).

الثقافة، حسب هذه النظرة، ذات طابع سكوني، ميتافيزيقي، لا يد للبشر في صياغتها أو تغييرها أو استثمارها. وهي كل متكامل صلد ومغلق، تؤخذ كلها أو ترمى كلها. وهكذا يستبعد أي حديث عن سياسات ثقافية أو ممارسات بشرية أو توجهات سياسية، صائبة أو خائبة، محفزة أو محبطة. وكذلك يستبعد الحديث عن أي ارتباط للثقافة بالوقائع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبالأسئلة التي تولدها المستجدات، وبالخيارات التي تتخذها القوى ذات النفوذ.

الثقافة التي يعتبرها البعض مسألة المسائل هي، في يقينهم، أشبه بالقضاء والقدر الذي لا راد له ولا إمكانية لتغييره أو زحزحته عن مساره المحتوم.. ومن هنا تأتي كل تلك المشاريع الفكرية المقفلة: يبدؤون من الثقافة كمنطلق ومفتاح لكل الأبواب، وبعد جهد مضن في تحليل الماء فإذا بهم يفسروه لنا بالماء: لا يمكن أن يحدث شيء، ولا أمل في شيء، إلا إذا غيرنا في ثقافتنا العصية على التغيير.

إذا استبعدنا منطق المعجزات والخوارق، فإن التعاطي مع الثقافة، من خلال الاستثمار والإضاءة والبناء والنقد، يبقى ممكنًا

لماذا نقرأ إذًا؟ ولماذا نكتب؟ بل ولماذا نعيش؟ وكيف لنا أن نلوم المتنفذين وأصحاب القرار إذا كان كل ما فعلوه، ويفعلونه وسيفعلونه، لا يغير قيد أنملة في "المكتوب" الثقافي المحتوم؟

اقرأ/ي أيضًا: الثقافة العربية.. طيران فوق الواقع

تبدو هذه المقاربة اليائسة مجرد رد فعل على مقاربة متطرفة سابقة، تلك التي ازدهرت في الخمسينات والستينات من القرن المنصرم، وتبنت نظرة متفائلة لقضية التغيير الثقافي باعتبارها تحصيل حاصل للفعل الثوري الذي سيغير المجتمعات برمتها. يومئذ ظنت الأيديولوجيات "التقدمية" أنها ما إن تمسك بمقاليد الأمور حتى تكون قادرة على إسقاط ثقافتنا البالية المعيقة وتأسيس "ثقافة جديدة" ذات أفق أرحب وإجابات أكثر ملائمة لمتطلبات العصر. لقد تصورت الإرادة المتضخمة أنها تستطيع، عبر قرارات ثورية ملزمة، تغيير الأولويات الثقافية وتعيين الأهداف والصيغ والأفكار والنظريات والممارسات.. تمامًا كما فعلت في مسألة "التصنيع الثقيل"، أو في مسألة "تحديد الملكية الزراعية".

وبالطبع كان الناتج مخزونًا كبيرًا من الشعارات البراقة التي لم تجد ترجمة لها إلا في أهازيج وأغان ثورية وهتافات جماهيرية ببغائية. أما على أرض الواقع فإن التغيير المنشود ظل مقتصرًا على القشرة السطحية ولم يتجاوز إلى العمق إلا قليلًا وعلى سبيل الاستثناء.

وكان من المرتجى أن يعود مؤشر "البندول" من شطحته المتطرفة ليستقر عند نقطة توازن معقولة، ولكن ما حدث أنه طار في الاتجاه المعاكس تمامًا، وبعيدًا مرة أخرى عن نقطة التوازن المنشودة. فبعد النظرة المستسهلة إلى التغيير الثقافي، ها نحن نقف أمام نظرة متشددة في يأسها وقنوطها، وفي إقفال جميع الأبواب والمنافذ، وفي تعتيم المشهد برمته..

صحيح أن الثقافة هي نتاج مسار تاريخي طويل ومعقد، ولكن ذلك لا يجعلها مسألة فوق أرضية.. فوق بشرية، كما لا يجعلنا ننكر ما تنطوي عليه هذه الثقافة من خيارات متعددة وعناصر مختلفة وإمكانيات قائمة. وإذا ما استبعدنا منطق المعجزات والخوارق، ومنطق إرادة التاريخ الخفية، فإن التعاطي مع الثقافة، من خلال الاستثمار والإضاءة والبناء والمجابهة والتطويق والنقد ومحاولة التغيير، يبقى ممكنًا وهو من مسؤولية البشر، ومسؤولية المثقفين قبل الجميع.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الثقافة.. السياسة.. الثورة

جمهورية نوادي الأدب.. تتويج الفشل