12-يناير-2016

دبي 1950

في رواية "زمن السيداف" (دار الحكمة) للإمارتية وداد خليف، نطالع إنسانًا هو حصيلة كفاح يومي ضد عدوين. إنه في صراع أزلي، تارة ضد غيلان الرمال المتحركة التي لا تتوقف عن تهديد جنته السماوية في واحات العين، وتارة أخرى ضد اللوثيان البحري بأذرعته الأخطبوطية التي تتربص بقوارب صيده وسفنه الشراعية الهاجعة في ميناء دبي.

ما من لعنة يمكن لها أن تتفوق على محنة العيش في عالم يفتقد فيه الإنسان قدرة القبض على مصيره الشخصي

يبدأ النسيج الحكائي لـ"زمن السيداف" من داخل متاهات حصن الشيخ بن ديلان، المنتصب وسط أحد بساتين واحة العين، حيث تتراكم نوازع الانتقام في نفس الشيخ على مهل، لتتفتق مخيلته الذئبية عن قرار انتزاع الطفلة موزانة، ذات الخمسة أعوام، من حضن والدتها، لتحيا في بيت عفراء بنت ثاني في دبي حياة العبيد. يظهر قرار الشيخ في عين صاحبه مثل ضربة معلم، كونه عقوبة تنسجم مع جنس الفعل الذي قام به والدها سيف بن مصلح، الذي باع بعض من اختطفهم كعبيد عندما عجزوا عن دفع الفدية.

يتماهى قرار بن ديلان بتحميل موازنة ذنب أبيها مع عقيدة الخطيئة الأصلية للإنسان، التي نجد أصداءها الفكرية الأولى في ملحمة الخلق البابلية. المغزى العميق الذي حاول كتبة هذه الملحمة تمريره هو نسبة العمل العبودي الذي فرضه ملوك تلك الحقبة على رعاياهم إلى رغبة إلهية حكيمة.


 

ينهض منطق الخطيئة الأصلية التي لحقت بالإنسان على فكرة توريث الذنب من الآباء إلى الأبناء كما لو كانت صفة جينية. ووفق منطق هذه الخطيئة، كل إنسان مذنب ما دام قد ولد من صلب رجل مذنب، وكل مذنب -وهذا هو المهم- مطالب بالخضوع لشروط العمل العبودي حتى يرضى عنه السيد وإلاّ كان مصيره الهلاك.

أما السر وراء ذنب الإنسان فيكمن أنه خلق من طين ممزوج بدم ملاك مذنب. قاد تمردًا ضد إرادة الآلهة التي ارتأت تكليفه بعبء العمل العمودي وإعفاء نفسها منه، فما كان من الآلهة الغاضبة إلا أن قتلته، وصنعت من دمه الإنسان الذي كلّف بمهمة الشيطان المتمرد.

حين يعجز السيد عن إخضاع التمرد داخل قلب العبد، يذهب إلى جسده وكله إصرار على تحويله إلى قاع للذة مهدورة

في واقعها الوجودي الجديد، تكتشف الطفلة موازنة عبر تجربتها الحسية، في بيت عفراء بنت ثاني، أنه ما من لعنة ولا محنة يمكن لها أن تتفوق على محنة العيش في عالم يفتقد فيه الإنسان قدرة القبض على مصيره الشخصي. لم تتوقف موازنة لحظة عن مقاومة وضعيتها الجديدة كمستعبدة، تارة عبر تملصها الدائم من لفظ مفردة "عمتي" المرادف العبودي لكلمة سيدتي، وتارة أخرى عبر لا مبالاتها تجاه الهبات التي قد تجود بها السيدة اتجاه عبيدها.

حين يعجز السيد عن إخضاع التمرد داخل قلب العبد، يذهب إلى جسده وكله إصرار على تحويله إلى قاع للذة مهدورة، بدلًا من أن يكون فضاء لمتعة بلا حدود. هذا ما آلت إليه حالة موزانة عندما تم رفض تزويجها من الشاب مصبح، أحد أقرباء عفراء، الذي وقع في حبها، وتم استبداله بمرزوق الشاير أحد العبيد المعتقين حديثًا. 

في كل مرة يحاول فيها السيد هز عصاه لإخضاع العبد من أجل قهره، يكتشف هشاشة سطوته أمام لا مبالاة الآخر بعنفه الهستيري، هذا ما أصرت عليه مَنّوة النّومة التي واصلت إطلاق الحرية لجسدها إلى الحد الذي حملت بجنينها سفاحًا. لم تكتف مَنّوة بذلك، بل تحدت سيدتها عفراء بنيلها حريتها عبر لجوئها إلى دار الاعتماد البريطانية، الطريق الوحيدة التي استطاع فتح ثغرة في جدار مؤسسة العبودية القبلية التي واصلت لا مبالاتها بعذابات البشر، إلى ما يقارب الأربعة عشر قرنًا، رغم كل إغراءات الجنة السماوية التي وعد بها الإسلام أتباعه. 

رواية "زمن السيداف" غنية بدلالاتها الأرشيفية التي تجعل من الرواية متحفًا، حسب ما يذهب إليه الروائي التركي باموق في مقابلة بين الرواية والمتحف. فقد احتفت الرواية بالشعر النبطي المليء بالمشاعر الإنسانية الطافحة بالحنين للبشر والأمكنة. كما احتفت بالأكلات الشعبية إلى الدرجة التي كدنا نشتم رائحة القهوة في الدلال. وفي الرواية، نذهب عميقًا مع مشاعر السرور التي ملأت قلوب أطفال ونساء دبي إثر عودة الرجال سالمين من رحلات صيد اللؤلؤ المحفوفة بالمخاطر. 

رواية "زمن السيداف" أقرب ما تكون إلى الملحمة الشعبية التي يشارك في صياغتها عدد لا نهائي من البشر

"زمن السيداف" ليست وثيقة تاريخية بالمعنى الحرفي للكلمة، رغم رصدها الدقيق لأهم الأحداث التاريخية الكبرى في حياة إمارة دبي. إنها أقرب ما تكون إلى الملحمة الشعبية الكبرى التي تشارك في صياغة أحداثها عدد لا نهائي من البشر. الرغبة وراء اقتحام عالم "زمن السيداف"الحكائي هو التعرف على غنى حياة البشر ومشاعرهم، طرق تعبيرهم عن رغباتهم وحاجاتهم، مجموعة المعارف والعقائد التي ضبطت سلوكهم ووجهت أفعالهم. إنه توق أرواحنا في التعرف على الطابع العام للتجربة الإنسانية في تجلياتها المختلفة.

الصلابة الروحية التي مكنت موزانة بالتوجه إلى طلب حريتها عبر بوابة دار الاعتماد البريطانية، غير عابئة بالأقاويل التي ستخرجها من دار الإسلام إلى دار الكفر، ولا بإمكانية استرقاقها من جديد، ولا بموتها على يد سيدها. هي نفسها الصلابة التي استمدها المعذبون في الأرض في كافة الأزمنة والحقب لانتزاع حريتهم من قبضة أسيادهم انتزاعًا، ولسان حالهم يردد كلمات نشيد الحرية الأبدي: حقًا حقًا ما الذي سيخسره العبد من ذل عبوديته غير قيده؟!

اقرأ/ي أيضًا:

أوبير حداد.. ماذا لو عشنا في جسد غريب؟

خالد خليفة.. بلاد في جنازة