05-نوفمبر-2022
سوناك خليفة لبوريس جونسون (Getty)

هل ثمة ما يدعو للاحتفاء بصعود سوناك؟ (Getty)

يقال إن الإنجاز السياسي الأكبر لمارغريت ثاتشر لا يعود إلى ما فعلته داخل حزب المحافظين، ولا إلى انتصارها في معركتها مع النقابات العمالية وفرض أجندة النيوليبرالية الجديدة- وهي كانت جديدة حقًا حينها. بل إن منجزها الحقيقي يتجلى في دفعها حزب العمال إلى التماهي مع خطها السياسي والانزياح يمينًا. الطريق الثالث الذي قاد توني بلير إلى السلطة، ومعه يساره الجديد، الأقل عمالية والأقرب إلي البنوك وقطاع الأعمال لم يكن ظاهرة بريطانية فحسب. كان لتحالف ريغان- ثاتشر تبعات دولية واسعة المدى، أثرت على اليسار حول العالم، بنفس قدر تأثيرها على اليمين.

ليس من المفاجئ أن تكون سياسات سوناك وحكومته موجهه بالضرورة ضد الطبقات الأفقر، ومن بينها الأقليات وتحديدًا ضد المهاجرين وطالبي اللجوء

 إلا أن معادلة التأثير والتأثر لا تسير في اتجاه واحد، فبعد الحرب العالمية، كان "التهديد الأحمر" وأشباح الثورة البروليتارية هو ما دفع أحزاب اليمين الأوروبي لتبني مشروع دولة الرفاه، وكان من شأن الاضطرابات التي اجتاحت دول الجنوب، جراء قسوة إجراءات التقشف والخصخصة النيوليبرالية، أن دفعت مؤسسات التمويل الدولية الكبرى ومن بينها صندوق النقد إلى تبني خطاب التنمية المستدامة والمسؤولية الاجتماعية وغيرها من اصطلاحات طورها اليسار لنقد سياسات السوق الحر ونماذج التنمية النيوليبرالية.

وليست علاقة التأثير المتبادل تلك ديالكتيكة، أي أنها لم تقد إلى تجذير للصراع، فالنتيجة كانت العكس من هذا، أي تضييق الفوارق الأيديولوجية بين اليمين واليسار، وبالتالي تحجيم الخيارات السياسية المتاحة أمام الناخبين، ومن الجائز اعتبار ذلك علامة على نضوج الديموقراطيات التمثيلية والمؤسسات الدولية ونجاحها في تعيين حدود أرضية وسط متفق عليها، بهامش آمن من الحركة يمينا ويسارًا. لكن يجوز أيضًا اعتبار الأمر سقوطًا في حالة من الجدب السياسي، أمام أفق تضيق فيه احتمالات الممكن، وفي مواجهة مستقبل لم يعد يراوح سوى أزمة مالية بعد أخرى، وانتصارات مفاجئة لليمين المتطرف هنا وهناك، لا تلبث أن تدفعنا إلى حدود المنطقة الآمنة، بهدف الدفاع عن الوضع القائم.

على تلك الخلفيات، يأتي صعود ريشي سوناك كأول رئيس وزراء من أصل آسيوي في المملكة المتحدة. الحدث تاريخي بلا شك، وحتى باعتراف حزب العمال المعارض. وبفضله يستحق اليسار الذي تبنى حقوق المهاجرين والأقليات وأجندة المساواة على مدى عقود بعضًا من إطراء الذات، فالسياسات التي دافع عنها في مواجهة ضيق أفق اليمين وعنصرية حزب المحافظين التاريخية، غدت اليوم خطاب التيار الرئيسي، يمينًا ويسارًا. بل ومرة أخرى يكون حزب المحافظين هو من قدم أول رئيس حكومة من الأقليات كما قدم أول امرأة لتولى المنصب في الماضي.

لكن هل ثمة ما يدعو للاحتفاء بصعود سوناك؟ أو كما يعاد السؤال من الماضي، هل كان هناك ما يدعو للتفاؤل بشأن صعود ثاتشر، كونها امرأة؟ التركة المريرة التي تركتها المرأة الحديدية خلفها تحيلنا إلى التقاطعات المركبة بين الجندر والطبقة، وكذا فإن ثروة سوناك الهائلة التي تجعل منه أغنى عضو في البرلمان، بل وأغنى من العاهل البريطاني نفسه، تشير بوضوح إلى الحاجة إلى قراءة تقاطعية لعلاقات الطبقة والعرق، وبالقدر نفسه فإن عدائية وزيرة الداخلية الحالية، سويلا برافرمان، تجاه اللاجئين والمهاجرين، وهي نفسها من أصول آسيوية مهاجرة، تحيلنا إلى التأمل في الديناميكيات المعقدة لتقاطع الجندر والطبقة واللون.

في مايو الماضي، وقبل شهور من انتخاب حزب المحافظين سوناك رئيسًا للحكومة، أصدر الفيلسوف الأمريكي أولوفيمي تايو، كتابه "غنيمة النخبة: كيف استولى الأقوياء على سياسات الهوية". من دراسات التنمية يقترض تايو مصطلح "غنيمة النخبة"، والذي يشير عادة إلى استيلاء نخب دول الجنوب على الحصص الأكبر من المعونات والاستثمارات الموجهة لتنمية بلادهم، وبالتالي حرمان السواد الأعظم من مواطنيهم من أي منفعة. تسير تلك التنظيرات بالتوازي مع أفكار سابقة عن البرجوازيات الوطنية التي ورثت مؤسسات الحكم وآلياته من الاستعمار، واحتكرت السلطة السياسية ورؤوس الأموال المادية والمعنوية في الدول المستقلة حديثًا، لتعيد إنتاج بنى النهب الاستعماري وقسوته.

على ذات النسق، تتبنى النخب المعولمة اليوم، ممثلة في طبقة المديرين وحلفائهم السياسيين أجندات الحراكات الجذرية وخطاباتها، وذلك بغرض استيعاب طاقتها وتحييد إمكانات مقاومتها. تايو الأكاديمي الأمريكي من أصول نيجيرية، المنتسب إلي الجيل الثاني من المهاجرين يشير إلى تجربته الشخصية، فبعيدًا عن قصه تحققه الفردي، ما معنى وجود شخص مثله في هيئة تدريس جامعة جورج تاون، أي ما الفارق الذي يشكله هذا بالنسبة للأمريكيين الأفارقة؟ أو بالنسبة للنيجيريين؟

هل ثمة ما يدعو للاحتفاء بصعود سوناك؟ أو كما يعاد السؤال من الماضي، هل كان هناك ما يدعو للتفاؤل بشأن صعود ثاتشر، كونها امرأة؟

ينتمي سوناك إلى طبقة المدراء تلك، وهو صاحب التاريخ المهني في بنك غولدمان ساكس، ويمثل تحالفها مع النخبة السياسية الحاكمة، ويتجلى في تاريخه السياسي القصير الاستئثار النخبوي بالموارد، وتركزها، بمعانيها المادية والمعنوية، أي الثروة والتعليم والسلطة السياسية معًا. ليس من المفاجئ أن تكون سياسات سوناك وحكومته موجهه بالضرورة ضد الطبقات الأفقر، ومن بينها الأقليات وتحديدًا ضد المهاجرين وطالبي اللجوء، فبحسب آليات غنيمة النخبة، لا تنعكس امتيازات النخب على الأقليات التي يمثلونها، بل على الأغلب تأتي تلك الامتيازات على حساب تلك المجموعات أكثر من غيرها.