23-فبراير-2022

(Getty Images)

"أخرجوه أم لا؟" هو السؤال الذي تصدَّر الرأي العام المحلي والدولي، والعالم يتابع عملية إنقاذ "ريان". تضارب في الأنباء هو السمة البارزة التي طبعت التغطية الإعلامية للقضية، التي كان من المفترض لها أن تكون عين المتابعين في عين المكان، أصبحت أداة لبس أكثر من ذلك، لدرجة التلاعب السيئ بمشاعر قلوب كانت معلَّقة مع الطفل داخل ظلام الجب، كل هذا من أجل السبق الصحفي.

كانت عملية إنقاذ الطفل الراحل ريان سابقة في تاريخ الإعلام المغربي المعاصر، الذي وجد نفسه لأول مرَّة محط أنظار العالم، ومصدراً شبه وحيد للمعلومة المستقاة على أرض قد يصعب على نظرائه الدَّوليين ملاحقة الخبر فيها

وليس من المبالغة القول أن عملية الإنقاذ تلك قد شكّلت سابقة في تاريخ الإعلام المغربي المعاصر، الذي وجد نفسه لأول مرَّة محط أنظار العالم، ومصدراً شبه وحيد للمعلومة المستقاة على أرض قد يصعب على نظرائه الدَّوليين ملاحقة الخبر فيها؛ نظراً لوعورة الوصول إلى القرية مسرح الفاجعة، كما للسرعة التي كانت تدور بها الأحداث. لكن هل يمكن لهذا المعطى أن يكون صك شفاعة لكل الخروقات المهنية التي طبعت التغطية؟

اليوم، وعلى بعد أزيد من أسبوعين على فاجعة الطفل ريان، وخارج موجة المشاعر الملتهبة، والتعاطف المحلي والعربي والعالمي الذي عرفته، قد تسمح هذه المسافة الزمنية بالعودة إلى لحظات عملية الإنقاذ التي طالعها أغلبنا على شاشات الهواتف والتلفزات. عودة بعين التمحيص أقصد، والوقوف على أخطائها التي عرت واقع إعلام مستحدث بالمغرب، تحالف في صنعه التطور المتسارع لوسائل التواصل الاجتماعي والإقبال الكبير على استهلاك الفضيحة.

ريان.. بداية البث!

بالعودة إلى أطوار التغطية الإعلامية التي حظيت بها حادثة الطفل ريان، وجب التنويه أولاً؛ بأنه لولا الزخم الإعلامي الذي أحدثته لما كان لقصته أن تحظى بكل التعاطف العالمي الذي لقته، ولغادر ريان بصمت دون أي اعتبار مما وقع.

وكان من أعظم ما لحقها، على سبيل المثال لا الحصر، الحرب التي أعلنتها عدة دول على الآبار المهجورة مخافة تكرار الفاجعة، إضافة إلى شدَّها انتباه السلطت المغربية لمنطقة مهمشة يسكنها عشرات "ريانات" توجب عليها رعايتهم وحمايتهم، كما وحَّد الطفل ابن الخمس سنوات قلوب ملايين العرب الذين، ولأمس قريب، فرقتهم المشاحنات السياسية.

عودة إلى لحظة انطلاق التغطية الإعلامية، يحكي أحد أبرز وجوهها، محمد عادل التاطو، الصحفي المغربي الذي تابع الحدث منذ لحظاته الأولى. يحكي التاطو لـ "ألترا صوت"، أنه "بعد علمنا بما وقع، ظننا في الأول بأنها حادثة روتينية مثيلة التي اعتدنا أن تقع خاصة في مناطق ريفية مثل إقليم شفشاون، لكن بعد ذلك تبين بأن الأمر يستدعي المتابعة خاصة وأن الطفل كان لا يزال على قيد الحياة".

"انتقلنا بسرعة لعين المكان، وكنا أول صحفيين يصلون إلى هناك زوال يوم الأربعاء" يضيف الصحفي المغربي، مشيراً إلى أن الاعتقاد قبلاً هو أن مهمته ستنتهي في اليوم نفسه، وبالتالي لم يجهز نفسه للمكوث هناك أياماً خمسة إضافية. عن تلك الأجواء الأولى يورد المتحدث: "وجدنا جمهور من الناس ملتفاً حول فتحة البئر، ولم يكن هناك رجال السلطة بما يكفي لإخلاء تلك المنطقة، بيد أن عمليات الإنقاذ كانت قد بدأت منذ ما يقارب اليوم، ومنهم علمنا مدى صعوبة العملية وأنها قد تأخذ وقتاً أطول مما توقعنا من قبل".

عمليات الإنقاذ في اليوم الأول تركزت بشكل أساسي على تجربة نزول المتطوعين، كما على إمداد الطفل بالأوكسجين، يشرح محمد عادل التاطو، ويضيف بأنه في تلك الليلة حضرت الجرافات لبداية عملية الحفر. قى التاطو وفريقه تلك اللَّيلة في العراء، مرابطين بقرب البئر التي ضمت في بطنها ريان، لا إمداد لهم إلا من "ساكنة القرية التي فتحت لنا بيوت منازلها مشكوة، وسمحت لنا بشهن هواتفنا ووسائل التصوير، كما قدَّموا لنا بعض الأطعمة المحلية" يورد الصحفي.

على هذا المنوال دامت الأيام الخمسة للتغطية التي قام بها التاطو وفريقه، حيث لم يتسنَّ لهم أن يناموا إلا ما يعادل النصف ساعة في كل أربعة وعشرين من العمل. "ومع كل مستجد كنا نتريث بشكل كبير في النشر، ولا ننشر إلا بعد التيقن وتأكيد الخبر من أحد المصادر الرسمية أو من الساكنة المحليَّة، عكس ما وقع فيه عدد كبير من الزملاء، كنا نأخذ بالاعتبار ترقب الرأي العام الوطني والدولي للقضية حيث أي تسرع قد يتلاعب بمشاعر المتابعين" يوضح المتحدث.

صعوبات جمَّة

تغطية إعلامية لم تكن "قطعة حلوى"، بالنسبة للصحفيين الذين رابطوا لخمسة أيام متصلة لتقديمها. هذا ما يؤكده كذلك الصحفي المغربي يوسف الحايك في حديثه لـ "ألترا صوت" قائلاً: "في تقديري كانت هناك صعوبات كثيرة ومتعددة بالنسبة لكل الزملاء الصحافيين؛ سواء ممن تقاطروا على قرية إغران (ضواحي شفشاون شمال المغرب) أو ممن اشتغلوا على متابعة تطورات العملية من مكاتبهم".

 صعوبات، يسترسل الحايك، "على رأسها التضارب في المعطيات بشأن تطورات عملية الإنقاذ، في ظل شح المعلومات الرسمية والموثوقة في البداية، قبل أن تحاول السلطات المحلية تدارك الأمر من خلال تكليف ناطق رسمي باسم خلية الإنقاذ، يعمل على مد وسائل الإعلام بإفادات بشأن تطوراتها". كما كانت هناك كذلك "صعوبات في التواصل واجهت الصحافيين ميدانيا، في ظل ضعف شبكة الهاتف والانترنت في هذه المنطقة الجبلية"، وأدى  "احتشاد المئات من المواطنين الذين قدموا إلى القرية، في بعض الحالات، إلى تعرض زملاء صحافيين لمجموعة من المضايقات أثناء القيام بعملهم".

كل هذه الصعوبات التقنية تنضاف إلى أخرى نفسية عايشها الصحفيون الذين اشتغلوا على التغطية، يوضحها محمد عادل التاطو قائلاً: "مع مرور أيام وساعات التغطية كان الضغط يزداد علينا بشكل كبير، فقد كنا متأثرين جداً بالموضوع ونتمنى أن تنتهي عملية الإنقاذ بسرعة. خصوصاً خلال اللحظات الأخيرة، أحسست أن قوتين كانتا تتصارعان داخلي؛ قوة تفرض علي الحياد المهني، وأخرى تجتاحني بتعاطف إنساني. إلى أن أتت الصدمة بوفاة الطفل بعد إخراجه، والتي تطلب الأمر مني وقتاً للخروج منها".

أخطاء مهنية قاتلة

يجمع مهتمون بالشأن الإعلامي على أن قضية ريان عرَّت وضع الجسد الصحفي المغربي المتردي، حيث أصبح خلال السنوات الأخيرة سوقاً لصحافة جديدة صعدت على السطح، في غالبها إلكتروني، تنشد الفضيحة أكثر مما تعمل على إيصال المعلومة المفيدة وتنوير الرأي العام. هذا النوع من الصحافة الذي، وللأسف، كان في الصفوف الأمامية خلال التغطية الإعلامية للحادثة.

هكذا وجدنا مجموعة من الخروقات المهنية تطفو على سطح التغطية، على رأسها تضارب الأخبار حول خروجه بحيث دأب عدد من المنابر الإعلامية منذ بداية التغطية على ترديد جملة "نحن في الساعات الأخيرة لـ…"، متلاعبين بمشاعر الملايين التي كانت تتابع أطوار عملية الإنقاذ.

ينضاف إليها عدم احترام خصوصية الضحية التي نشرت صورتها داخل البئر دون حجب ملامحها المتألمة، كما الروبورتاجات والحوارات المنزاحة عن مضمون القضية والذي كان في أغلب الوقت يسيء للأسرة المكلومة. وفي نفس سياق عدم احترام خصوصية الأطفال والتشويش على الرأي العام المتابع للقضية، نشرت عدة منصات إعلامية إلكترونية مقاطع طفل يبكي لأنه لم يسمح له بالمشاركة في عملية الإنقاذ.

واستمرَّت هذه الأخطاء المهنية لبعض الصحفيين المغاربة حتى بعد إعلان وفاة الطفل ريان، حيث نقل مقاطع البث المباشر الذي كانوا يذيعونها على صفحاتهم بفيسبوك مشادات كلامية وتسابقاً للحوار مع أب الفقيد دون أي احترام لحالته النفسية، ورأينا كذلك صحفياً لأحد المنابر الإعلامية يظهر في مقطع حاملاً حذاء ومحفظة ريان وهو يتباكى عن الطفل الذي لم يكتب له إكمال تعليمه.

يخلص الصحفي المغربي حمزة الترباوي إلى أن "التغطية الإعلامية لقصة ريان شابتها كوارث مهنية حقيقية"، ويضيف متحدثاً لـ "ألترا صوت": "السبب في هذا التوصيف هو أن الموضوع كان دقيقاً جداً، يحمل جرعة عالية من الحساسية والمشاعر القوية، كان الناس يعيشون حالة من الهشاشة النفسية والترقب، واستغل قطاع من المحسوبين على الصحافة هذه المشاعر أسوأ استغلال لإرضاء بجشعهم وهوسهم بالحصول على المزيد من المشاهدات واللايكات".

وفي نفس سياق تشخيص تلك الهفوات المهنية، يوضح أسامة باجي، الباحث والصحفي المغربي، لـ "ألترا صوت": بأن "بند البحث عن الحقيقة (من الميثاق الوطني لأخلاقيات الصحافة)  يقول "إن البحث الدؤوب عن الحقيقة هو عماد عمل الصحفي، وحق المواطن في إعلام صادق ومعلومات صحيحة مستقاة بطرق سليمة ومعالجة بشكل مهني يعلو فوق أي اعتبار آخر". هنا نجد أن جل المنابر التي قامت بالتغطية الإعلامية لحادث المرحوم ريان قد تجاوزته".

إعلامَين، وليس إعلاماً واحداً!

فيما يفرق الباحث المغربي بين نوعين من الإعلام أظهرت حادثة ريان وجودها؛ "قطب عمومي إلى حد كبير أدى مهمته بشكل جيد وحاول إيصال الصورة بشكل مهني وهو المطلوب، وقطب آخر خاص تمثله منابر عديدة محسوبة على الصحافة والتي أبانت عن رغبته في السير نحو الاتجاه المعاكس".

إذاً إعلامان وليس واحداً، هو ما يوافق على وجوده أيضاً مولود صياد، الصحفي الجزائري المختص في التحقق الإعلامي، حيث "كان هناك من قدم تغطية مهنية وفيها تحري الدقة واحترام أخلاقيات المهنة، هنا يمكنني أن أعطي مثال بالصحفي محمد عادل التاطو. وهناك من كان يبحث عن الاستعراض الإعلامي، حيث رأينا مجموعة منشورات فارغة من المحتوى الإخباري الذي يفرضه سياق التغطية، وتعدّته إلى مواد مفسرة على هوى المراسل وخطّه التحريري، وهذا انزياح خطير عن أخلاقيات المهنة" يوضح صياد لـ "ألترا صوت".

ويلتقي المتحدثان كذلك في نقطة الاختلاف بين تغطية الصحافة الدولية للقضية ونظيرتها المحلية. فبحسب باجي فـ "العثرات التي سقط فيها القطب العمومي في اعتقادي تعود إلى غياب التواصل المسؤول وغياب ثقافة تدبير الأزمات والخبرة الكافية في العمل داخلها" عكس مراسلي المنابر الدولية. ويرى صياد: أن الفرق راجع في التوفر على آليات التحقق الضرورية من الأخبار الواردة من المصدر فـ "مثلاً نحن في وكالة "سند" للتحقق كنا نمرر أي خبر أو مقطع مصور بمسار طويل من التدقيق قبل نشره".

استهلاك الفضيحة

ويجمع كل المتحدثين على أن قضية ريان وقعت ضحية مجموعة من المنصات الإعلامية التي "تتاجر" في الفضيحة. ومن هذه النقطة، دعا الصحفي أسامة باجي المجلس الوطني للصحافة "أن يتحمل مسؤوليته فيما وقع ويقع دائما من انزياحات أخلاقية في الإعلام الرقمي، والاتجاه إلى سن عقوبات تأديبية لكل المخالفين والقضاء في حالة ما تكررت هذه الممارسات التي تسيء للصحافة ولصورة البلد".

وبدوره شجب المجلس الوطني للصحافة المغربي في بيان له ما وصفه بـ "الممارسات المشينة، التي صاحبت تغطية محاولات إنقاذ الطفل ريان"، ووجه دعوة  إلى وسائل الإعلام "من أجل الالتزام بأخلاقيات المهنة ومبادئها النبيلة وقواعدها"، منبها إلى أن "تغطية الفواجع الإنسانية، تعتبر محكاً رئيسياً لمدى احترام الصحافة لمسؤوليتها الاجتماعية وحرصها على ألا تحول الفواجع إلى وسيلة للربح والارتزاق".

وبتوعد يونس مجاهد، رئيس المجلس الوطني للصحافة، أبطال هذه الخروقات، في تصريح له على قناة "ميدي1"، قائلاً: "سنفعل قانون الصحافة بقوة وبسرعة حيث سيجري عقد اجتماعات استثنائية لاعتبار أن هذه المسألة استعجالية… المجتمع يطالبنا بالتحرك وهناك عدد من الاتصالات والتعبيرات الواضحة على أن هذا النوع من الصحافة مرفوض".

فيما حظيت المنابر الإعلامية الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي بأكبر نسب إقبال لمتابعة أطوار عملية إنقاذ الطفل ريان في المغرب. فحسب دراسة استقصائية أجراها باجي، بعنوان "التغطية الإعلامية لحادث الطفل ريان: بين الأخلاقيات وانزياحات الإعلام المغربي"، فإن 23.7% من المغاربة تابعوا مستجدات الطفل ريان من خلال المواقع الإخبارية، تنضاف إليها 18% من الذين تابعوها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. بالمقابل، اعتبر 44% التغطية الإعلامية سيئة، و59.9% اعتبروا أن الإعلام الإلكتروني لم يحترم أخلاقيات العمل الصحفي.صحافة إلكترونية صفراء!

ويعد الإعلام الرقمي حديث العهد بالمغرب، إذ لا يتعدى عمر وجوده العقد الأخير من تاريخي البلاد، ومع ذلك نجح في تحقيق تطور كمي وكيفي كبير، جعله يزيح وسائل الإعلام التقليدية من عرش إيصال المعلومة. غير أن مقابل هذا التطور هناك تسابق لهذا الشكل الإعلام، في نطاق غالب منه، على التجارة بالفضيحة. الأمر الذي يدفع للسؤال حول أسباب رواج هذه المنصات؟

يجيب محمد الطالبي، باحث مختص في الإعلام والتواصل السياسي بجامعة سيدي محمد بن عبد الله، في حديث خصَّ به "ألتراصوت": بأن "رواج هذا الشكل من الإعلام مرتبط بالطريقة التي يقدم بها، بطريقة فهو يعتمد على الإثارة، كما على التضليل والتمويه. بالتالي استغلال سذاجة بعض المتلقين وعدم فهمهم لآليات اشتغال الإعلام الرقمي والإعلام بصفة عامة، وهذا راجع إلى غياب ثقافة إعلامية تمكنهم من التمييز بين المحتوى الجيد والمحتوى الضعيف، كما من التحقق من صحة الأخبار قبل الإقبال عليها".

يعد الإعلام الرقمي حديث العهد بالمغرب، إذ لا يتعدى عمر وجوده العقد الأخير من تاريخي البلاد، ومع ذلك نجح في تحقيق تطور كمي وكيفي كبير، جعله يزيح وسائل الإعلام التقليدية من عرش إيصال المعلومة

"وهناك أيضا عوامل سيكولوجية تدفع إلى هذا الرواج" يضيف الباحث المغربي، مفسراً إياها في النزوع البشري الغرائزي لما هو غامض وبحثه على الإثارة والفضائحية وكل ما هو مليء بالأسرار، "وهذا ما تلبيه هذه المواقع بمحتواها ذاك، عبر العناوين أو الصور أو مقاطع الفيديو المركبة بشكل يروم إثارة المتلقي". كل هذا في نظر الطالبي يدخل في منظومة ربحية شرسة ولا أخلاقية، حيث "كل ما يهمها هو جمع أرباح اللايكات والمشاهدات، وبالتالي يمكن نسمي هذا المحتوى أي شيء سوى أنه إعلام".

 

اقرأ/ي أيضًا: 

موت ريان الذي جعلنا أقل إنسانية

بعد صمود ملحمي في أعماق الأرض.. الطفل ريان يفارق الحياة