في أحد المشاهد الأولى من فيلم "Before Sunrise"، يقول جيسي لسيلين عن فكرة خطرت على باله أثناء ترحاله المتكرر عبر القطارات لأسابيع عدة، وهي إنتاج برنامج تلفزيوني يُصَوِّر 365 يومًا عاديًا في حياة 365 شخصًا من مدن متعددة، وأراد تسميته "شاعرية الحياة اليومية". لم تُعجب الفكرة سيلين، فما المثير في تصوير تلك الأشياء المملة العادية التي يفعلها الناس كل يوم؟
في البداية، أظنني اتفقت معها، لكن منذ تفشي الوباء، بدأ المرء يُقدِّر ما اعتبره شيئًا مضمونًا في حياته اليومية، كالقدرة على معانقة صديق، والتمشية سويًا، والزيارات العائلية.. وهلم جرًا. لكن المحزن أن كل هذه التجارب ما كانت لتفتقدها إليانور أوليفانت، بطلة رواية "Eleanor Oliphant is Completely Fine" للكاتبة الإسكتلندية جيل هانيمان، لأنها الأشياء نفسها التي حُرمت منها طوال ثلاثين عامًا.
ما معنى "بخير"؟
إليانور موظفة في شركة، تنتمي إلى النوع الغريب من الأفراد المنعزلين الذين يفتقرون إلى المهارات الاجتماعية ويتحدث الناس عنهم من وراء ظهورهم. فهي لا تتفاعل مع أحد، وإن حدث ذلك تقول أول ما يخطر على بالها من دون تفكير، ما يضعها في مواقف محرجة ومؤلمة. وإن سألها أحد عن حالها تقول إنها بخير، فهذا ما تعلمته واعتادت عليه، تقول: "إذا سألك شخص ما عن حالك، يجب أن تقول إنك بخير، ليس من المفترض أن تقول إنك بكيت حتى غلبك النوم الليلة الماضية لأنك لم تتحدث إلى شخص آخر لمدة يومين متتاليين، قُل بخير وحسب".
تُذكّرنا الرواية بحاجتنا إلى التواصل مع الآخرين وأهمية بناء العلاقات الاجتماعية وقدرتها على تغيير حياتنا
ومن هنا يأتي العنوان الذي يعبِّر عن مُفارقة تُلخّص تعقيدات شخصية إليانور، فهي تملك حياة مُنظّمَة بدقة، تعمل خمسة أيام في الأسبوع في ساعات مُحددة، لا تتردد على أماكن سوى العمل ومحل البقالة، وفي العطلات تكون البيتزا المجمدة وشراب الفودكا رفيقاها.
تحتمي إليانور بروتينيها الصارم من شياطين الماضي وذكرياته وآثارها التي نراها مبعثرة في غرفتها، وتتشكل في آرائها عن العالم والأشخاص، حتى تتضح لنا القصة كاملة بعد تعارفها على أشخاص آخرين، وتبدأ رحلة خلاصها التي تبعث على الدفء والحزن على حد سواء.
الحلم بمستقبل غير فردي
تظهر إليانور مُكتفية بروتينيها اليومي وراضية عن أسلوب حياتها الذي لم تعرف غيره، حتى يأتي اليوم الذي تشاهد فيه مُغنٍ محلي في حفل موسيقي فازت بتذاكر لحضوره، وتقتنع إليانور أنه مُخطط لهما باللقاء والوقوع في الحب، فتبدأ بتخيّل تفاعلاتهما واللحظة التي يخبرها فيها أنه يُحبها، ومن ثم تعمل على التخطيط للقائه، بل وحتى التخطيط لمستقبلهما معًا.
من هذه الفكرة فقط، يتضح أن إليانور ليست بخير كما تزعم، وإنما تتوق مثلها مثلنا إلى التواصل مع الآخرين وتكوين علاقات هادفة. وفي سبيل التدرب للوصول إلى هذا المغني، تسلك إليانور مسارًا آخر يختلف عن روتينها الجامد، وهنا سيأتي دور رايموند، زميلها في العمل الذي ستتعرف عليه بعد وجود عُطل في الكمبيوتر الخاص بها. ومن أجل الوصول إلى حبها الحقيقي والتدرب على التفاعلات الاجتماعية، ستوافق على تناول القهوة معه خارج العمل، وسيبدأ رايموند في اختراق عالمها المنعزل من دون أهداف خاصة به، ومن دون سلاح عدا اللطف والتقبل والرغبة الحقيقية في الصداقة.
وسيُضاف إلى صداقتهما الجديدة سامي، وهو رجل كبير السن وقع أمامهما وأنقذا حياته، ونشأت بينهما صداقة غير متوقعة. وعلى يدي سامي – حرفيًا ومجازًا – ترى إليانور الدفء والطيبة التي حُرمت منها طوال حياتها عندما أمسك يدها بيديه الاثنتين، وشكرها بشدّة على إنقاذها لحياته حتى اغرورقت عيناها بالدموع.
احتضان الهشاشة
مع تطور صداقة الثلاثة معًا، تبدأ إليانور في الثقة بنفسها وفي من حولها، ورويدًا رويدًا ستكسر تفاعلاتها مع ريموند وسامي القيود العاطفية التي بنتها حول نفسها، وهذا ما يُقرب إليانور إلينا كقراء، إذ سنرى أنفسنا في مفارقاتها، في الرغبة في وضع حواجز لحماية أنفسنا بينما نتوق في الوقت سرًا إلى الرفقة والتواصل، وهذا ما فعلته الرواية ببراعة شديدة، لأنها مكتوبة بضمير المتكلم، ما يسمح لنا بتجربة أفكار إليانور ومشاعرها وتصوراتها مباشرة، ويوفر لنا مدخلًا ونظرة ثاقبة إلى عقلها، ومن ثم نشعر بحميمية مع إليانور الغريبة والطريفة من دون قصد.
يكمن قلب الرواية في استكشاف الاتصال البشري، الذي ظهر جليًا في علاقة إليانور مع ريموند، التي تمثل رقصة مبهجة من الصداقة الحميمة والضعف، فنرى رايموند يقلق بخصوص إليانور ويعتني بها في لحظات الهشاشة والألم، ما مثل حدثًا غريبًا ونادرًا بالنسبة إلى إليانور التي تقول: "كلما شعرت بالحزن أو الانزعاج من قبل، كان الأشخاص ذوو الصلة في حياتي يتصلون ببساطة بالأخصائي الاجتماعي الخاص بي ويتم نقلي إلى مكان آخر. لم يتصل ريموند بأي شخص أو طلب من وكالة خارجية التدخل. لقد اختار أن يعتني بي بنفسه. كنت أفكر في هذا، وخلصت إلى أنه يوجد بعض الأشخاص الذين لا يعتبرون السلوك الصعب سببًا لإنهاء علاقتهم معك. إذا كانوا يحبونك على ما يبدو.. كانوا مستعدين للحفاظ على العلاقة معك، حتى لو كنت حزينًا أو مستاءً، أو تتصرف بطرق صعبة، كان هذا اكتشافًا جديدًا".
اكتشاف إليانور لهذا الأمر كان اكتشافًا حزينًا لأنه تطلب كل هذا الوقت حتى تعرفه، واكتشافًا سعيدًا كذلك بمعنى أن الوقت لم يفُت، وأنه يُمكن معالجة الصدمات السابقة وتعلم الشفاء من خلال العلاقات التي تستند إلى القبول بدلًا من الأحكام. وما نراه في انتقال إليانور من التفاعل السطحي مع الآخرين إلى الارتباط العاطفي الحقيقي يثبت أن الارتباط الحقيقي يتطلب الضعف وأن الضعف المشترك يشكلان نسيج الإنسانية.
تذكرنا الرواية بالحاجة العالمية للتواصل الإنساني وقدرته الكبيرة على تغيير حياتنا، وكيف أن الجمال يمكن أن ينبثق من أكثر الأماكن انكسارًا، وأنه لا بأس في أن نقول إننا لسنا بخير تمامًا.
