10-أغسطس-2017

الكاتب الإسباني كارلوس زافون (1962)

أصدرت "منشورات الجمل" الجزء الثاني من رباعية "مقبرة الكتب المنسية" للكاتب الإسباني كارلوس زافون، بعنوان "لعبة الملاك" من ترجمة معاوية عبد المجيد. تعيد الرواية إحياء مقبرة الكتب المنسية، التي تركناها في روايته السابقة "ظل الريح" كما وتعيد سرد حكايات عن التاريخ والأدب، وحكاية أكبر عن مدينة برشلونة، حيث يرجع بنا زافون في الجزء الثاني من لعبته هذه إلى عام 1917 حين كان ديفيد مارتين 17 عامًا، يعمل في دار نشر "صوت الصناعة" القديم والمتهالك. فلم ينس اليوم الذي أصبح فيه أشهر مؤلف قصص بوليسية في برشلونة، حين دعاه مدير التحرير الدون فاسيليو موراغاس ليطلب منه كتابة قصص بغية تعبئة الفراغ في الزاوية الأخيرة من الصحيفة، بعد أن كان يعمل في تنضيد ما يكتبه بيدرو فيدال أهم كتاب الدار وأقلهم حظًا، فيتدرج مارتين من صبي يوزع القهوة على المحررين إلى كاتب محترف لسلاسل قصصية، وهكذا يصدح صدى "ألغاز برشلونة" التي بات يخصص لها زاوية في الصحيفة.

في رواية "لعبة الملاك" نتابع عبر سرد تفاصيل حياة الكاتب مارتين وعمله المتشعب الأوجه والأمكنة

من ذلك المكان المعتم البارد بدأت شهرة مارتين تكبر، وتكبر معها شخصيته التي ستتنقل فيما بعد إلى تجارب تضعه أمام تحديات الكتابة وتصقل فيه شخصية الكاتب. يحكي كارلوس زافون حكاية المدينة مجددًا عبر حكايات الكتب الغامضة والكتاب المهمشين، برؤية أدبية ثرية تقوم على تشابك خيوط السرد ومستوياته عبر حبكات حكائية متداخلة تشكل نهاية كل منها نقطة بداية تؤسس لأخرى، مادفع  كثيرون لتشبيه رواية "لعبة الملاك" بالرواية الشهيرة "مئة عام من العزلة" لغارسيا ماركيز، حيث تشعب الحكايات وتعدد الشخصيات الذي يفتح للخيال أبوابًا ويطوعه على مقاس الحكاية.

اقرأ/ي أيضًا: "ظل الريح".. حكاية المدينة مدفونة في مقبرة كتب

لا تغيب تفاصيل الجزء الأول من رباعية مقبرة الكتب المنسية، فنتذكر رواية "ظل الريح" والشخصية الغامضة للكاتب الملعون خوليان كاراكاس، الذي غير كتابه المدفون في تلك المقبرة حياة دانييل سيمبيري، فنعود لما قبل ولادة بطل الرواية سيمبيري، حين كان والده ابن صاحب مكتبة سيمبيري والوريث الوحيد لعهد والده بنشر حب القراءة للجميع، ووالدته إيزابيلا المساعدة الأدبية للكاتب المحترف ديفيد مارتين، يأخذنا زافون في لعبة الملاك إلى تاريخ أعمق وأبعد للتعرف على ما جرى قبل أن يدخل دانييل إلى مقبرة الكتب المنسية، المكان الذي غير حياة الكثيرين من قبله.

نتابع عبر سرد تفاصيل حياة الكاتب مارتين وعمله المتشعب الأوجه والأمكنة، تاريخ بعض الشخصيات وعلاقتها بمقبرة الكتب المنسية، هذا المكان الذي يربط فيه زافون تاريخ المدينة وقصة الكتابة، وسير شخصية لأدباء متخيلين، وكأن المكان هو الحافظ الوحيد لتاريخ المدينة المكتوب وإرثها الأدبي، فينتج منه ألغاز الكتابة والحياة في برشلونة، ومن خلاله نتتبع أثر الثقافة الملفوفة بالكثير من الغموض والسرية، ونلاحظ كيف يغير الأدب والكتابة حياة الأدباء ومن حولهم من الناس العاديون. 

تتحرك شخصية الكاتب ديفيد مارتين ممسكةً بخيط السرد في أجواء كان قد أسس لها زافون في روايته السابقة، فلا نستغرب تعدد الشخصيات وتشعب الأمكنة وانبثاق حبكات صغيرة داخل خط السرد الأكبر، والذي لا يمكن اختصاره بالمغامرات الشخصية لكاتب يتدرج بين دور النشر والأسماء المستعارة، وصفقات الكتابة مع الناشرين، فالشخصيات التي تتدخل في محيطه لها اعتبارات وتأثيرات، فقد شكلها زافون من رحم الغموض الذي بنى عليه تطورات متتابعة.

نجول مع مارتين في مدينة الملاعين التي كانت عنوانًا لإحدى قصصه حتى تحولت إلى واقع معاش، يعبر من صوت الصناعة إلى كوريلي بخفة الصدفة والقدرية التي وضعت تلك الصفقة أمامه، فيدعوه الأخير للكتابة عن الدين واللاهوت، مقابل مبلغ مالي كبير، والتعهد بتخليصه من دار النشر التي كان يعمل فيها باسم مستعار وبعقد يلزمه على المتابعة، ليتحول مارتين إلى فاوست الكتابة الغامضة مارًا بتجارب وأزمات تخلقها علاقات جديدة وأخرى قديمة، تشكل كلها الخلفية الإنسانية لبرشلونة القديمة. وتتحول الكتابة من مهنة يومية يتقنها، إلى خطة بوليسية تؤمن له الاستمرار.

مقبرة الكتب المنسية، المكان الذي يبدأ منه تأسيس الخيال والغموض، هو العتبة الأولى للخيوط البوليسية وكل الأسرار والألغاز التي تنمو عليها شبكات الروي المتعددة، فتبدو البوليسية كطريقة أليفة لسرد الأحداث لدى زافون، ينوع طرق تشكيل الوقائع والأحداث، حتى تتعقد مع الأمكنة والشخوص منتجةً وقائع برشلونة قبل الحرب الأهلية الإسبانية، لاشيء يفشي بأمر الحرب، ولكن هناك الكثير مما ينبئ بحدوثها، فأزقة برشلونة وشوارعها التي تشكل الخلفية التاريخية لأحداث الرواية، لا تقف كمشاهد بل يشركها زافون بحبكته، ويعبر من خلالها إلى عوالم ضيقة في مجتمع الكتاب والكتب، صفقات الكتابة، والكتب الممنوعة، والجرائم المرتكبة.

يذهب بنا كارلوس زافون إلى طبقات عميقة في تاريخ والسرد، من خلال مهنة الكتابة والشغف بالكتب والحكايات

يذهب بنا كارلوس زافون إلى طبقات عميقة في تاريخ والسرد، من خلال مهنة الكتابة والشغف بالكتب والحكايات، فنواجه شخصية الكاتب الذي يبيع نفسه للشيطان مرة، ويلبس ثوب الملاك مرات أخرى، يلج مارتين تلك العوالم الثقافية والمكتبات الممنوعة، وسر الكتب بغموضها وغرابتها والتي تشكل وجه المجتمع البرشلوني الخفي.

اقرأ/ي أيضًا: سنان أنطون: تركت العراق لكنه لم يتركني

تنتهي "لعبة الملاك" حيث تبدأ "ظل الريح" وتؤسس الثانية لحكاية الأولى، إذا كانت "ظل الريح" هي درب دانييل سيمبيري نحو الكتابة بقلم فيكتور هيجو، فلعبة الملاك هي طريق ديفيد مارتين المعبدة بالأسرار ومخاطر الكتابة. ولأن الأبطال سلسلة لا تنتهي يولد كل منهم تاريخ الآخر، ويرتبط به بشكل وثيق، إمّا عن طريق الكتب، أو عن طريق السر.  لنتذكر حين تنتهي لعبة الملاك بأن دانييل سيمبيري سيفتح مجددًا الباب الخشبي الكبير لمقبرة الكتب المنسية، وبابًا آخر للتذكر والروي، بعد أن أغلقه ديفيد مارتين وأغلق معه قصته مع الكتابة، فتبدأ رحلة اكتشاف جديدة لكتب مدفونة وغامضة. وتصبح أول مرة وضع فيها ديفيد مارتين اسمه على قصة مكتوبة، لحظة في غاية التوريط والأهمية، كأول مرة ذهب فيها سيمبيري إلى مقبرة الكتب المنسية، وكأن تاريخ الكتب جعل من برشلونة أكثر غموضًا واضطرابًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"يكفي أننا معًا"..رواية عن ألق الحبّ المستحيل

مها حسن: "بلغني أيتها الحرب السعيدة"