02-يناير-2017

الكاتب الإسباني كارلوس زافون (1962)

"يقاس حجم السر بقيمة الشخص الذي نخفيه عنه". هذا السر الذي رسم خطوط وأنساق حياة الشخصيات وسير الأحداث في رواية "ظل الريح" (دار مسكيلياني، 2016، ترجمة معاوية عبد الحميد) للكاتب الإسباني كارلوس زافون (1962).

غيّرت أسرار الرواية مصائر الشخصيات، تلك الأسرار التي غالبًا ما تحملها الكتب والحكايات سنين عديدة، تخفيها بين أوراقها المتعبة حتى يأتي بشرٌ أخرون يبحثون فيها ويستلهمون منها أحداث الحياة وتراكيبها، فيكشفون معها الكثير حول شخوص كانت ستكسوهم غبار الأيام لو لم تخلدهم الكتب. والتي غالبًا ماتكون أي الكتب في الكثير من الأزمنة أجزاء عضوية هامة للحياة اليومية، التي ستتحول إلى تاريخ وأقصوصة مدونة، ليس فقط لحفظ التاريخ والحكاية والكاتب، بل لتكون رسمًا تصويريًا يتنبئ بالمستقبل. 

في "ظل الريح" ، يقاس حجم السر بقيمة الشخص الذي نخفيه عنه

هذا ما جاءت به رواية "ظل الريح"، التي حققت أعلى نسبة مبيعات للكتب في إسبانيا وترجمت إلى عشرين لغة أخرى، الرواية التي تقتفي أثر الشخصيات والأحداث والمدن وتفرش التفاصيل على قاعدة خصبة لتوالد المفارقات والمتناقضات، فتبدأ من تدوين السيرة والتاريخ وصولًا إلى تجارب الحب والحرب والسياسة، تجنح نحو البوليسية إلى جانب الكثير من الرومانسية. لتأخذك إلى رواية داخل رواية تحفل بعوالم كثيرة. 

اقرأ/ي أيضًا: نبيل الملحم: الكتابة فعل أقرب إلى الاستحمام

تجول بنا رواية "ظل الريح" في عالمين واقعي وتاريخي، الأول بتوصيف وقائع وتفاصيل يوميات دانييل سيمبيري بطل الرواية، خلال بحثه عن كاتب مجهول ومهمش كتب رواية بعنوان "ظل الريح"، وروايات أخرى غيرها عادت على الصبي بلعنة البحث والسؤال فغيّرت أحداث حياته وشكلت انقلابًا حاسمًا في جوهر وعيه، هو كشخصية تعيش في إسبانيا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية يبدو فضول صبي في العاشرة يكبر في أيام الرماد كما يسميها زافون أمرًا ليس بالسهل، فالمعرفة والسؤال هي مفاتيح لفهم أزمة تلك الأيام، ما يربطه بحتمية تاريخية تشغل مع المصادفات محلًا واسعًا من عالم الرواية وتفاصيلها.

ومرة ثانية بالخيوط التي أوصلنا إليها فضول البطل وبحثه، وهي بالغرق في تفاصيل حياة الكاتب خوليان كاراكس، الذي ترك مدينته برشلونة وذهب إلى باريس، هناك حين راح يكتب بالخفاء وينشر روايات بقيت دون قراءة ومتابعة، إلى جانب آخر يلاحقه بعض الأشخاص الذين وصل ظلهم من برشلونة، يريدون الثأر منه بسبب الحب وشخصيات رواياته. سر التخفي هذا لاحق حياة كاراكس المفترضة، ولاحق دانييل كذلك في محاولة ربط سحرية قام بها زافون عبّر بها عن حركة دائرية لذلك التاريخ الوارد في الرواية والمتوقف عند فترات زمنية متفاوتة.

الزمان الفعلي لرواية زافون هو عام 1945 والأعوام المتتالية بانتظام حتى عام 1955 هي رحلة دانييل إلى عوالم برشلونة، المدينة التي حملت وزرًا كبيرًا من المأساة، والتي بدت في الحكايات المتتالية بطلًا ضروريًا يهدأ ويغضب يتغير يكبر ويشيخ، حيث كل مافيها كان حاضرًا شوارعها بيوتها الصغيرة المعتمة وروائح الرطوبة التي تملأها، حتى قصورها العامرة منها والمتآكلة بفعل الزمن والنسيان، أما الشخصيات فكانت بدايةً تقتصر على دانييل سيمبيري ووالده الذي فجر سيلًا متدفقًا أمام فضول ابنه الصغير عندما اقتاده إلى أكثر أماكن برشلونة خصوصية، إلى مقبرة الكتب المنسية حيث خُبئِت فيها الكتب التي لا يتذكرها أحد ويختفي أثرها مع الزمان. 
 
يختار الولد كتابًا هو رواية "ظل الريح" لكاتب هاوٍ يدعى خوليان كاراكس، ويتعهد بالحفاظ عليه مدى الحياة لأنه يملك النسخة الوحيدة المتبقية من هذه الرواية، بعد قراءته لها يقرر البحث عن كاراكس ومعرفة سره، خصوصًا بعد أن لاحقه أحد المجهولين طالبًا منه أن يعطيه الكتاب، بدأ الشك يعتمر قلبه وبدأت حكاية ظل الريح الكبرى تتشابك خيوطها التاريخية بخيوط الواقع المصاب بالحرب. بعد أن بدأت حكاية ظل الريح الأولى قبل ذلك بعقود لتُترك غير مكتملة أو بالأحرى غير معروفة ومبهمة حتى تكملها الثانية، ولأن حكاياتنا لا تروى إن لم يذكرها الآخرون كما يفصح الكاتب الهارب من واقعٍ متأزم خوليان كاراكس بطل الرواية الأولى زمنيًا، والذي عاش الحرب الأهلية الإسبانية وعاشت به حربًا عاطفية وجودية، جعلت منه كاتبًا مهمشًا لم يلق الشهرة والقراءة إلاّ بمن يهمهم أمره. فيتكلف الصغير دانييل بطل الرواية الأقرب زمنيًا مهمة البحث عنه ونكش تفاصيل حياته وكتباته وأسباب تهميشها وتعمد حرقها وإتلافها للتخلص مماتخفيه من أسرار.

حين تكون الرواية حاملًا لرواية أخرى تُنسج فيها خيوط الواقعية السحرية 

تُكمل تفاصيل بحث دانييل أسرار حياة خوليان كاراكس، فتكون الحكايات كلعبة مرايا متتالية تعكس الواحدة وجه الأخرى، ذلك إنه من الضروري أن تكتمل حكاية كاراكس الضائع والشخوص المرتبطة بها لتكتمل حكاية الصغير دانييل، الذي يكبر في عالم بوليسي وعاطفي غالبًا ما يقهره ويحبه في أحيان كثيرة.

اقرأ/ي أيضًا: "رقصة القبور".. درس في حكاية المهزومين

حين تكون الرواية حاملًا لرواية أخرى تُنسج فيها خيوط الواقعية السحرية التي يبدو تأثر الكاتب بها جليلًا، تحمل على عاتقها مهمة تشريح وقائع وأحداث تؤدي إلى أحداث أخرى في محاولة لفهم الغموض الذي يتنفس خلف التفاصيل.

بخصوبة فكرية وحيوية سردية تُميز أسلوب السرد والروي عند كارلوس زافون، في محاكاة لأسلوب الكاتب الإيطالي الراحل أمبيرتو إيكو في روايته الأشهر "اسم الوردة"، كما أشار كثيرون لنقاط تلاقٍ بين أسلوب الكاتبين، وتُشير أيضًا لأهمية كبرى أعطاها نمط السرد هذا لأحداث الرواية التي قامت على أرضية مشبعة بالألغاز والأسرار، لا يمكن أن تسير أنساقها دون مضمون سحري وقوالب سردية تمتع كتاب أمريكا اللاتينية، وكتاب كُثر من القرن العشرين بجماليات صنعتها واحتراف تلوينها.

حبكات تتقن فن الاسترجاع والعودة خلفًا بغية التأثير والتغيير في واقعٍ بات هزيلًا بعد نهاية الحرب، في محاولة للقول بأن الأدب يمكنه أن يصنع حياة أخرى للشخصيات، كما يمكنه أن يُقوّم تفاصيل الواقع بسحريته الخالصة. عبر بكرة من المتتاليات مشدودة على بعضها ريثما تنزلق واحدة حتى تظهر الأخريات، في علاقة متتالية لحكايات ماضي المكان وماضي الشخوص المتأثرين بنتائج واقعٍ واحد ومماثل، فكل شخصية تؤثر بالأخرى على حد سواء حتى العابرة منها على سيل الأحداث.

في "ظل الريح"، تُخلد مقبرة الكتب حكايات المدينة التي تغيرت خلال فترة الحكم الدكتاتورية

اقرأ/ي أيضًا: سفيتلانا أليكسييفيتش: ليس للحرب وجه أنثوي

تخلق الرواية سياقًا تاريخيًا اجتماعيًا وسياسيًا يحتم على القارئ امتلاك الصبر لإكمال حلّ الخيوط المتراكبة، وكل ما تحمله الرسائل التي فرض وجودها وجود الأسرار، فكان النص الأخير الذي حمل عنوان نوريا مونفورت (1933-1955) هي ابنة بواب مقبرة الكتب المنسية، وقعت في غرام خوليان فكان لها مأساة على مقاسها، تشكل رسالتها ملخصًا شاملًا لكل ما خفي وضاقت به الفصول الأولى للرواية. باعتبارها أخر من بقي من زمن الحكاية القديمة، ويقع على عاتقها مهمة الروي المباشر والمقصود الذي أنهى تشابك عُقدًا في المصائر والوقائع. 
 
وبين دانييل الصغير وخوليان المختفي، تُخلد مقبرة الكتب حكايات المدينة التي تغيرت خلال فترة الحكم الدكتاتورية، والتي مرت منها حرب أممية اهتز لها ماضي المدينة وحاضرها، فلم تجد فرصة أمام التغييرات المتسارعة لسرد قصتها إلى أن كَبُرَ دانييل وعاد خوليان، الاسمين اللذين لن ينساهما القارئ بعد غرقه في عوالم برشلونية سحرية وغامضة، تروي بخطى سريعة من عشرينيات إلى خمسينيات القرن العشرين، حكايةً عن ضيّر التخفي والتسلط، وأزمات أخرى لوجود الديكتاتوريات وتأثيرها على حاضر المدن ومستقبلها.

اقرأ/ي أيضًا:

"فتاة القطار".. رواية عن نساء على الحافة

"الجسد البارد".. رواية عن الوجود السوري في لبنان