04-نوفمبر-2018

غلاف الرواية

ليس في حياة المدعوّ "ك" شيء يدعو كاتب الرواية للكتابة عنه؛ مجرّد أسابيع تمرّ دون أيّة أحداث كبرى، لا شيء استثنائيًّا يجعل من "ك" مثيرًا للاهتمام الخارجيّ، علاقات عائلية متأزّمة، مرض السّرطان، ملاحظات وجودية ساخرة هنا وهناك، ذاكرة عطبة كحال أيّ ذاكرة بشرية أخرى في زمن الذاكرة الإلكترونية السريع هذا وأخيرًا، هنالك "ك" وأزمته الوجودية يصاحبها الغثيان.

لم يعد الروائيّ بالنّسبة لزولا مجرّد "حكّاء للقصّة الخياليّة"، بل هو المُراقب والطّبيب النفسيّ والمحلل للنّفس البشريّة

لكنّ ذلك ما يستحقُّ الكتابة عنه، ما يجب الكتابة عنه. في رأي إميل زولا، على الروائيّ أن يكتب عن الحياة العاديّة، عن العاديّ؛ أن يُقدّم لمحة/ نتفة من الحياة الإنسانيّة، يُحرِّكُ شخوصًا أحياء وحقيقيين في وسط حقيقيّ، يصفُ ما يلزم وصفه، يبتكر ما يلزم ابتكاره، ومن ثمّ يجلس بعيدًا، يراقب تصرّفات هذه الشخصيّات التي لدى كلِّ منها ما تتصرّف به إزاء الآخر وإزاء نفسها. أي، على الرّواية أن تعيد إنتاج الحياة بدقّة وحسب، أن تأتي المشاهد أوّلًا؛ ولن يكون على الروائيّ سوى أن ينتقي منها ويوازنها بطريقة تجعل من عمله صرحًا فنيًا، وعلميًا إلى حدٍّ ما. لم يعد الروائيّ بالنّسبة لزولا مجرّد "حكّاء للقصّة الخياليّة"، بل هو المُراقب والطّبيب النفسيّ والمحلل للنّفس البشريّة وهو المُصوِّرُ لما يلزمُ تصويره من أحداث ومجريات من حول الشخصيّات. تخلو الرّواية بالنّسبة له من أيّ عقد مهما كانت، مهما تكن بساطتها. تواصل مجراها قدماً في الحياة اليوميّة، تعيش الأشياء  يومًا بيوم، دون أن تخبّئ للقارئ أيّة مفاجأة، وأكثر ما يمكن أن تقدمه هو مادّةُ حادثةٍ عاديّة.

 اقرأ/ي أيضًا: فواز حدّاد: أصبحت الرواية حياتي كلها

هذا كلُّ ما يلزم؛ لكتابة رواية جيّدة عن شخصيّات عاديّة. وتلك صفات رواية "الحالة الحرجة للمدعوّ ك" (دار التنوير، 2017) لعزيز محمد؛ تقرأها وتستمرُّ في قراءتها، ليس هنالك أيّة مفاجآت، مجرّد أحداث يوميّة عاديّة تتلو بعضها، وبينما يروي الرّاوي قصّته على مدى اثنين وأربعين أسبوعاً، يَمضِي القارئ بسلاسة مذهلة تُصغي برويّة ودون أيّة صدمات غير متوقعة. ببساطة، إنّها رواية تبقى، لا تنسى، وتظلُّ حاضرة في اللاوعي وإن غابت عن الوعي تمامًا. 

كحال الشّعر والنثر؛ في الجماليّ، من السّهل بمكان الكتابة الشاعريّة وبإمكان الكاتب أن يذهب بعيدًا في مخيّلته ويقوم بملئها بالاستعارات عن الطّبيعة والحياة البشريّة من الدّاخل ومن الخارج. ولكن في الجماليّ الواقعيّ؛ من الصعب بمكان كتابة صفحات متتالية متقنة الصنع عن أشياء عاديّة جدًا، وعبر جمل قصيرة شديدة الكثافة.  

إلّا أنّ الرّواية تزخر بهذه الجمل القصيرة متقنة الصنع، المشبعة للمعنى والدقيقة في الوصف، "لا تُبالغ"، عبارة الوالد الأكثر تميُّزاً، ووصف الكاتب لحالة الأزمة بين الراوي ووالدته: "كلانا كانت تعوزنا الرقّة"، ووصفه لعلاقته مع "المبنى الهائل" للشركة التي يعمل بها: "كأن المكان قد صمم ليبدو الإنسان أتفه شيء فيه"، وليس أخيرًا، العبارة الأثيرة لديّ من الرواية والتي تختزل حالة الراوي منذ الولادة وحتّى انتهاء صفحات الرّواية والتي كانت تعليقًا على حدثٍ هامّ في حياة الشخصيّة: "يدرك المرء.. عناء أن يكون نفسه"؛ إلّا أنّ الأكثر عبقريّة من هذا كلّه، هو العنوان الذي شدّني إلى الرواية قبل قراءتها بشهور عديدة ظللت منتظرًا خلالها قراءتها، والعنوان بالطّبع: "الحالة الحرجة للمدعوّ "ك". ربّما ما منح الكاتب هذه القدرة على الاختزال والإشباع، عبر جمل قصيرة شديدة الكثافة، هو أنّ الرواية تأتي بعد تجربة طويلة من كتابة القصّة القصيرة التي مرّنت ذهنه على الكتابة شديدة الكثافة عبر جمل قصيرة تذكّر بروايات تشيخوف القصيرة وقصصه القصيرة أيضًا.

السّخرية السوداء ضدًّا للكافكويّة

يمنح العنوان للقارئ الذي لم يقرأ الرّواية بعد انطباعًا قد يكون سيئًا إن لم يتخلّص منهُ بعد انتهائه من قراءة الأسبوعين الأوّلين؛ وهو أنّ الرواية كافكاويّة الطّابع وكابوسيّة. كذلك فإنّ الأسبوع الأوّل قد يعطي هذا الانطباع لأنّه كتب عن شخصيّة تعيشُ تحت تأثير يوميّات كافكا أصلًا؛ وذلك أمر يجب تمييزه بين أن يكتب الكاتب شخصيّة تعيش تحت تأثير كاتبٍ ما أو أن يكون هو نفسه خاضع لتأثير هذا الكاتب. إنّ ما يجب تمييزه، هو القدرة على كتابة شخصيّة تعيش تحت تأثير كاتب ما، دون التورُّط في تأثُّر الشخصيّة هذا وأن يُصبح الكاتب نفسه متأثّراً بما تتأثّر الشخصيّة به؛ وتلك تقنيّة في الكتابة يجب عدم اتّهام الكاتب عبرها بالتأثُّر المباشر، في حالة عزيز محمّد، بالكافكاويّة والكابوسيّة.

إلّا أنّ الرواية، على العكس من الادّعاءات والانطباعات حولها، تزخر بما هو ضدّ كابوسيّة كافكا؛ إنّها ساخرة بشكل لا يُصدّق. وللسخريّة وظيفة أساسيّة في الرّواية – ومع ذلك قد تكون عرضيّة، لأنّ الرواية توحي بحسّ هائل بالعَرَضيّة، إذ حتّى السّرطان يكادُ يكون عرضيًّا، العملُ نفسهُ عَرَضيّ، العائلة بالطّبع شيء عَرَضيّ، وفي وسَطِ هذه العرَضيّة كُلَّها يسير "ك" متخبّطًا بهذه العَوَارِض كلّها – وتلك الوظيفة هي التّعرية؛ ثمّة شيء ما حول مرضى السّرطان مزعج، شيء يتعلّق بالنّمطية التي يُصنَّفون عبرها فورَ اكتشافهم للسّرطان. وذلك الشّيء يمكن قراءته في هاتين الفقرتين من الرّواية، المختصرتين إلى حدّ "إشباع المعنى المطلوب": يظنُّ "ك"، ساخراً، أنّ بإمكانه إلقاء خبر مرضه بالسّرطان بسخرية وبتهكُّم، بل وبشعور بالتفوّق والتسلّي أيضًا: "فكّرت أن أبلغهم هكذا، بابتسامة ساخرة، وربّما ضحكة مكبوتة تفلت رغماً عنّي قبل بدء الحديث، كأنني سأحكي نكتة. ثمّ تفضّلوا: سرطان! بل يجب أن أقول "كانسر"، فهذا أشدُّ رعبًا، وأغرب وقعًا وأدعى للارتباك. ولن يملك أحد من المتفذلكين أن يقول لماذا تستخدم الإنجليزيّة؟ يجب أن تفتخر بلغتك! قل لديّ سرطان، لا تقل "آي هاف كانسر". سكون هذا فريدًا من نوعه لو حدث، حتى أني سأسمح لصاحبه أن ينجو بفعلته". هذا وصف ساحر لما شعر به "ك" لدى تفكيره بالآخرين وكيف بإمكانه الآن أن يستعيد فردانيّته وخصوصيّته وحماية نفسه من الآخرين لمجرّد أنّه يحمل هذا المرض في جسده كخطأ جينيّ، خطأ يُشبهُ خطأ كونه هو نفسه التي يتحمّل أن عناء أن يكونها.   

لكنّ الأمر لا يدوم طويلًا بالطّبع، ذلك الفرد الذي غذّى غروره مَنْعه من الدّخول إلى الحمّام بالطائرة ومن ثمّ ولدى قوله: "ولكنّي مصاب بالسرطان"، انتبه الجميع فجأة بإشفاق إليه وتركوه يدخل إلى حمّام الدّرجة الأولى رغم حظره على ركّاب الدرجة الاقتصاديّة؛ ذلك الفرد لم يلبث أن صُدِمَ بما حمّله السّرطان من مسؤوليّات اجتماعيّة فوق مسؤوليّاته الأساسيّة: "لم يكن الأمر كما تصوّرته طبعًا. ثمّة دائمًا ذاك الشعور الثقيل بأنّك تؤذي أحدهم حين تبلغه. "عذرًا لأنّك مضطر لأن تعرف هذا"، أقول حين يعجز أحدهم عن إبداء رد فعل، أو "أجل هذا مريع، فلنتحلَّ بالصبر"، حين يبالغ في إبداء التأثّر. الكل سيتصرّف بحسب ما يظن أنك تحتاجه، وأنت عليك أن تراعي محاولاتهم طبعاً وتمنحهم شعورًا جيدًا إزاء جهدهم. هكذا تجد نفسك مضطرًا لتأدية واجباتك تجاه الآخرين في هذا الوقت أكثر من أيّ وقت مضى". 

وذلك ما هو مزعج حول مرضى السّرطان، ذلك ما يجعل من السّرطان أو أيّ مرضٍ آخر، موقعًا آخر من مواقع المواجهة مع المجتمع، مع عمليّات التّنميط التي نُجريها لبعضنا البعض بشكلٍ مستمرّ. البعض يخضع لعمليّة استبدال هويّة وشخصيّة بالكامل، بل لا يُصبِحُ هو نفسه، بل يُصبحُ هو مرضه؛ يصبح فقط، مريضًا بالسّرطان، وكأنّه لديه هذه الوظيفة في الحياة، أن يكون مرضًا ويخضع للعلاج ويتلقّى الرعاية والتعاطف لا أكثر. البعض يخضع لهذا كلّه، مضطّرًا أو مرغمًا أو مُرهقًا من المواجهة. والبعض الآخر، كحال الرّاوي في الرّواية، يتمسّك بأقصى حدود فردانيّته التي تُنهَشُ وتُنتَهُكُ بنظرات الأطبّاء ومراقباتهم، بتقاريرهم الدوريّة عن التحسّن أو التدهور، بنظرات العائلة والأصدقاء المشفقة والمتعاطفة والغاضبة حينما يرفُضُ العلاج حينًا ويقبلهُ على مضضٍ حينًا آخر. يشتبِكُ الرّاوي مع هذا كلّه، بل يكون مستعدًا للموت في سبيل هذه الهويّة الفرديّة التي وجدت نفسها في مواجهة مفتوحة مع الجميع، العائلة والمجتمع، مكبّلة بواجباتها نحو الآخرين ومكبّلة بعواطفها نحوهم.

قد يجد المرء نفسه على حافّة الموت، في مواجهة استنزافيّة معه، ومع ذلك يجد نفسه مضطّرًا للعيش لوقت أطول أحيانًا فقط من أجل الآخر

هنا تأتي السّخرية في حياة الرّاوي وكوظيفة في الرّاوية؛ تعرية هذا كلّه، تعرية قيم التعاطف الإنساني، والتي عبرها وخلالها يجري تجريد الرّاوي من هويّته الفرديّة، همومه الشخصيّة، إرهاقه وحتّى غثيانه اللذان يبعثان في داخله رغبة أخيرة بالاستسلام يتراجع دائماً عن تحقيقها لخضوعه للآخرين. تستبدل هويّته الفرديّة، بهويّة وبطاقة المشفى، وعوض أن يكون مجرّد موظّف لامبالي متأخّر كعادته عن العمل، يصبح موظّفًا مريضًا بالسّرطان، لديه رفاهية أن يكون لا مبالي، متأخّر عن العمل أو حتّى غير مضطّر للمجيء إلى العمل.

 اقرأ/ي أيضًا: مقدمة في تطوّر الرواية الأوروبية الحديثة

في الرّواية مقاربة إنسانيّة لهذه المواجهة، بين فرد عاجز وضعيف وآخر لا يتوقّف عن مطالبته بالامتثال لقواعد السلوك الاجتماعيّة التي تنهشُ في فردانيّته. لكنّها ليست المقاربة الوحيدة؛ بل هي كما ذكرت مسبقًا، شخصيّة لها جوهرها الخاصّ ولم تكن مَهمّة الكاتب عزيز محمّد سوى مراقبتها وهي تتخبّط عشوائيًا في الحياة اليوميّة. بالنّسبة لي، ظننت دائمًا أنّي إذا ما مرضت بالسّرطان سأعتزل العالم وأموت بهدوء في مكان قصي، أمّا بعد قراءتي للرواية فأظنّ أن هذه المقاربة لن تفلح تمامًا. فقد يجد المرء نفسه على حافّة الموت، في مواجهة استنزافيّة معه ومع ذلك يجد نفسه مضطّرًا للعيش لوقت أطول أحيانًا فقط من أجل الآخر، وحينما يفعل ذلك عن اختيار شخصيّ صرف، يكون ذلك جزء من هويّته الشخصيّة وليس خضوعًا وتجرُّدًا منها أمام الآخرين ولهم. وربّما يجد البعض نفسه مدفوعًا للعمل أكثر من أيّ وقتٍ سابق، متذمّرًا من سرعة الوقت، كحال العديد من الكُتّاب الذين كتبوا تحت حمّى المرض، مثل حسين البرغوثي وإدوارد سعيد وغيرهما؛ وذلك أيضًا، يكون جزءًا من هويّتهم الشخصيّة وليس خضوعاً لأحد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كيف جئتُ إلى الرواية؟

هزيمتنا في الرواية المصرية