04-سبتمبر-2016

ترام في أحد شوارع القاهرة (أ.ف.ب)

محاولات عدّة قامت بها الشركة المصرية لمترو الأنفاق في سبيل رفع أسعار تذاكرها، لكنها سرعان ما كانت تذهب سُدى إزاء النفور والتذمر الذي تُقابل به مثل هذه القرارات، فمن الصعب على المواطن المطحون الذي أصبح راتبه مثل الماء البارد سرعان ما يتبخر تحت نار الأسعار التي يطاردها شبح الغلاء كل يوم تقبل هكذا إجراءات، في حين استغلت الشركة موجة غلاء الأسعار، وفاجأت هي الأخرى الجميع برفع أسعار التذاكر من جنيه إلى ثلاثة جنيهات دفعة واحدة.

ويبدو أن القرار سيخرج هذه المرة من دائرة الاقتراح على الأوراق إلى دائرة التطبيق الفعلي، إذ قامت الشركة بدهن بعض العربات باللون الفوسفوري، وهذه العربات ستكون بالطبع هي صاحبة النصيب الأكبر من الأسعار فالراكب فيها سيدفع ثلاثة جنيهات، وسيلقى من سبل الراحة ما لا يجده في العربات الأخرى، فضلًا عن كونها مكيفة فسيجد فيها من المقاعد الخالية ما يتيح له الجلوس دون صدام أو استجداء لعطف الجالسين كي يتطوعوا ويجلسوه مكانهم، الأمر الذي كان يمثل له مشقة وعناء بالغين في السابق، فثلاثة جنيهات بالنسبة له لا تعد شيئًا إلى جوار تلك الراحة المفرطة والتي يبدو فيها لدقائق باللغة المصرية الدارجة "ملك زمانه".

بعد محاولات شركات النقل في رفع أسعار التذاكر، ربما يلجأ المواطن المصري مضطرًا إلى "الترام/تراموي" تلك الوسيلة التي كان يظنها بدائية

ويصبح المترو وسيلة النقل الشعبية شكلًا جديدًا من أشكال الصراع بين الطبقات، ومن المفترض أن الدولة العميقة تتخذ سبلًا جذرية نحو القضاء على تلك الظاهرة التي من الممكن أن تهدد بقاءها عندما تنتفض الطبقات الكادحة معيدين إلى الأذهان مرة أخرى مبادئ البيان الشيوعي "ماركس وأنجلز"، فالعربات الفسفورية ستكون فقط للقادرين على دفع الثلاثة جنيهات، أما العاجزون وغير القادرين والذين يمثلون السواد الأعظم فستكون العربات العادية من نصيبهم، فالصوت الداخلي لديهم يقول: "إنهم بترددهم اليومي على المترو، تكونت لديهم مناعة نتيجة الزحام الذي اعتادوا عليه وهم محشورون بين عرباته، فالأمر أصبح بالنسبة لهم سواء، فما الداعي لأن يدفع مبلغًا باهظًا كهذا في راحة وقتية سرعان ما تزول".

اقرأ/ي أيضًا: تفاقم كارثة نقص الدواء في مصر.. أي حلول؟

الأزمة هنا لا تكمن في المشقة التي سيتلقاها رواد العربات العادية، لأن هذا بات أمرًا طبيعيًا لراكبي المترو، إنما المشكلة الحقيقية في أن الحد الأدنى للتذكرة سيبدأ من "جنيه ونصف"، الأمر الذي يمثل عبئًا وثقلاً على ميزانية المواطن، "فنصف جنيه" الزيادة بطول الشهر قد لا يتحمله ويطيقه راتبه المعدوم، خصوصًا أنها جاءت مع زيادات أخرى كثيرة، فأعلن بلسان الحال "أن الضرب في الميت حرام"، المشكلة أيضًا تمس شريحة كبيرة من راكبيه والتي تتمثل في طلاب الجامعة، إذ الكثير منهم يُعتبر المترو بالنسبة له الوسيلة الوحيدة والأسهل للجامعة، وإلا سيلقوا من صنوف التعب والمشقة والتأخير ما لا يسمح به وقت المحاضرات، ناهيك عن مصروفهم الذي سيُستنزف منه الكثير مما هم في حاجة إليه.

"مما زاد الطين بله" كما يقول المثل أن زيادة أسعار التذاكر تزامنت مع زيادة بعض السلع، فأصبح المواطن في حالة أشبه "بالشنق" وهي التي سيكون عليها بالفعل في القريب العاجل، عندما تتبنى الحكومة موقف المغامر مصاص الدماء الذي لا يشبع إلا بالتغذي على دماء الضحايا، وهذا ما يحدث وما سيحدث وسط زفة هائلة يقيمها المنتفعون ويباركها الجياع الواهمون، بعد أن نفضت الدولة يدها من جميع مسؤولياتها تجاهه، وتركته غذاء للغربان، وتبقى سادرة في غيها متناسية أنها بدونه لن تستطيع العيش، فالمتكئون في الأرض لا يستطيعون صنع رفاهيتهم دون أن يوجد من يهيئها لهم، ويبقى صاحبنا معلقًا كالذبيحة في مشنقة الأسعار مستباح الجسد والكل يثري على حسابه أو على قفاه كما يقول المصريون.

والحل؟، الحكومة لا قطع الله لها عادة لا تقدم حلولاً وإن قدمت حلًا دائمًا ما يكون مبطنًا بأزمة ومشكلة أخرى، فكان مبرر "وزير النقل" على هذه الحادثة أن الزيادة طبيعية جدًا وعادية وهذا هو السعر الاقتصادي وأنها أتت أسوة ببقية المواصلات، وأن الهدف من الزيادة هو تحسين الخدمة، لكن الخبراء يرون في هذه الأزمة حلًا ربما قد لا يرقى للحكومة، وهي ربط تذكرة المترو بالقيمة السوقية، ومحاولة زيادة الإعلانات على العربات، دون اللجوء إلى الزيادة في أسعار التذاكر، إذ دائمًا ما تتذرع الحكومة في أن السبب في رفع الأسعار هو رفع مستوى الخدمة، ويُفاجأ المواطن في النهاية بأنه لا توجد خدمة في الأساس فضلًا عن تحسينها.

ويبقى الحل الأخير لدى الضحية، المواطن ممصوص الدم، أغلب الظن أن حله سيكون حلاً خاليًا من أي تحرك أو تذمر لأنه اعتاد على ذلك، فيكون رد فعله ناحية تلك القرارات سلبيًا، ربما يكون من ضمن الحلول التي سيلجأ لها هو أن يبحث عن وسيلة أخرى، فيجد أمامه أتوبيسات النقل العام وعربات الأجرة والتي دائمًا ما تكون اشد ابتزازًا، تبقى وسيلة باتت بالنسبة له كشيء قديم في ركن بعيد ومنسي من أركان الذاكرة قد علاه التراب، فأصبح محتاجًا اليوم إلى أن ينفض عنه التراب الذي علق به طوال السنوات الماضية، هذه الوسيلة هي "الترام"، هذا الذي كان في الماضي بالنسبة للمصريين كما المترو اليوم، لكنه لم يكن وسيلة تبتز بها الحكومة المواطن، وتعتبره أحد الطرق لمص دمه المستنزف.

قد لا يناسب "الترام" في رأيه هذا العصر، فكيف له أن يهضم فكرة أن يستخدم وسيلة تدار بأشكال قد تبدو في نظره بدائية مقارنة بالطرق التي تدار بها وسائل النقل في العالم اليوم، لكن لهذا "الترام" مع المصريين حكاية خاصة، كواحدة من حكاوي المصريين التي لا تنتهي.

القصة ذكرها عبد الرحمن بدوي في كتابه "مصر من نافذة التاريخ "، وهي أنه في أواخر صيف القرن التاسع عشر، خلت شوارع القاهرة من سكانها، وهرع الناس رجالًا ونساء إلى الشوارع، واحتشدوا على طول الطريق الممتد من بولاق إلى ميدان العتبة الخضراء، ليروا مخلوقًا قد بدا لهم وقتها أنه يكاد يكون معجزة من معجزات العصر، يزحف على قضبان ملساء، وهم يصيحون من الخلف "العفريت.. العفريت".

اقرأ/ي أيضًا: "تنظيم الجامعات".. قانون السادات إلى زوال

ولم يكن هذا العفريت سوى أول عربة ترام تشق شوارع القاهرة، وكانت هذه المركبة كما وصفها مندوب جريدة المقطم آنذاك، تسرع حتى تسابق الريح متى خلت لها الطرق، وتارة تسير رويدًا رويدًا، أو تقف بغتة عند اعتراض الأولاد والسابلة طريقها، وقد وقف سائقها ووضع يده على ميزان تسييرها وإيقافها.

وبعد أيام من تلك التجربة المثيرة، احتفلت الشركة البلجيكية بتسييرها على الخطوط الثمانية، والتي كانت تتجمع في ميدان العتبة وتمتد إلى أطراف القاهرة، ووصفوها بأنها تجربة لم تخطر على قلب بشر منذ مائة عام، وهو أن تجري مركبات كبيرة تقل المئات من الناس، لا بقوة الخيل ولا بقوة البخار، بل بقوة الطبيعة التي تسبق البروق.

ويصف محمد سيد كيلاني الترام قائلاً: "فقد كان يحظر ركوبه على كل محدث غوغاء أو سكران، أو مصاب بعاهة تشمئز منها النفوس، ولا يجوز تسلق العواميد المعدة للحركة الكهربائية، أو تعليق شيء عليها إو إقامة إشارات كاذبة.

يأتي رفع أسعار تذاكر المترو من باب سياسة النظام القائمة على مفاقمة غلاء المعيشة دون حسبان العواقب

كان "الترام" بمثابة المرحلة الفاصلة التي انتقل فيها المجتمع المصري من طور البداوة والتخلف إلى طور الحضارة والمدنية، وكان أيضًا وسيلة بديلة عن البغال والحمير بعد استغلال أصحابها لهم، فسهلت عملية الانتقال بين أطراف القاهرة، وأصبح في متناول الجميع قضاء أوقات السهر في شوارع وأزقة القاهرة، وكثرت الصحف والأندية الثقافية مما ساعد على ظهور "الأدب الترامي"، والمطلع على أدب نجيب محفوظ سيدرك ذلك جيدًا، وبخاصة إذا قرأ روايته "السراب"، فمعظم أحداثها وقعت في محطة الترام، حتى قال عنه شاعر وقتها:

إن الترامواي على القاهرة مصيبة يا قومنا قاهرة

فكم قلوب هالها رهبة وكم نفوس غالها طاهرة

يجري وعزرائيل من خلفه للقبض يدا غادرة

لكن بمرور السنين يصبح الترام وسيلة متخلفة وغير حضارية مقارنة بالوسائل الحديثة الأكثر سرعة وتقنية، وانطبقت عليه سنة الحياة التي لا ترحم العاجزين عن مواكبة إيقاع الحياة والعصر، فهو شبه اختفى من شوارع العباسية، لا تكاد ترى منه إلا أشباه قضبان محفورة في الطريق كادت أن تطمسها الأقدام، لكن بعد محاولات شركات النقل في رفع أسعار التذاكر، ربما يلجأ المواطن مضطرًا إلى تلك الوسيلة التي كان يظنها بدائية، لكن هذه المرة لن يصيح كما صاح أسلافه ويقول "العفريت" بعد أن رأى عربات المترو وهي تشق بطون الأرض، ولأن كلمة العفريت نفسها قد اختفت من قاموس الألفاظ الدارجة عندنا.

اقرأ/ي أيضًا:

"بفلوسك" فقط.. احصل على ماجستير الطب في مصر

أزمة لبن الأطفال بمصر: الوجه القبيح لبزنس الجيش!