24-مايو-2016

يحضر الوطن في أكثر من نص ولد المومن، لكن حضوره كان للمساءلة لا للتقديس

ارتبط الشعر المكتوب باللهجة الجزائرية، والذي يُعرف محليًّا بالشعر الشعبي، بجملة التحولات التي عرفها الفضاء الجزائري، خلال فترتي الاحتلال والاستقلال، واستطاع أن يرصد أحلامه وأوجاعه وأشواقه وطقوسه، وبالتالي بات شطرًا من هويته الثقافية التي شكّلت محلّ صراع مفتوح حتى اليوم. واختلفت نظرة المؤسسة الرسمية، إلى هذا الشعر، باختلاف طبيعة السلطة القائمة، من حيث ميولاتها الإيديولوجية، فقد تمت محاصرته خلال العقدين اللذين تليا الاستقلال الوطني، بالنظر إلى النزعة القومية التي كانت ترى في اللغة الفصحى عاملَ وحدة بين الشعوب العربية، ثم انزاحت هذه النظرة لصالح نظرة أكثر انفتاحًا.

حوصر الشعر الشعبي في الجزائر في عقدي ما بعد الاستقلال، بسبب النزعة القومية التي كانت سائدة

لا تخلو كليات الأدب اليوم من مادة الأدب الشعبي، ومن أساتذة مختصين في شتى فروعه، ومن طلبة يتوجهون إلى دراسته، وتقديم مذكراتِ تخرّجٍ فيه، وفق المناهج النقدية الحديثة، وكان تأسيس الرابطة الوطنية للأدب الشعبي، ثم الجمعية الجزائرية للأدب الشعبي، قبل سنوات قليلة، عتبة انطلاق فعلية، للمّ شمل الشعراء الشعبيين، من خلال الملتقيات الوطنية والمغاربية والعربية، والتي استقدمت تجارب زجلية عربية، استطاعت أن تستفزّ سؤال الحداثة بقوة في الفضاء الجزائري.

اقرأ/ي أيضًا: شيخة حليوى.. تحرير الباطن من همومه

من هنا، كسرت بعض الأسماء طوق القصيدة الكلاسيكية، وخاضت تجاربَ مفتوحة على التجديد، شكلًا وهواجسَ وقاموسًا، على ضوء وعيٍ بملامح اللحظة الجزائرية النابضة، إذ كان سائدًا أن دور الشاعر الشعبي، هو الحفاظ على أصول وقاموس المجتمع، لا مواكبة واقعه، وكتابته بروح/نظرة جديدة.

نلمس بوضوح هذه النزعة التجديدية، في نخبة من الدواوين التي صدرت خلال السنوات الخمس الأخيرة، كان آخرها ديوان "سيلفي" لـ رشيد ولد المومن، والذي صدر قبل أيام عن "دار الأوطان" في الجزائر، معلنًا عن صوت مختلف، بدأ يمارس بوعي فعل القطيعة الجمالية مع المدونة السائدة، ويُبرمجنا على انتظار إصداره القادم، انطلاقًا مما بشّر به ديوانه هذا.

"سيلفي" هو مجموعة من المحطات الصغيرة، وقف عندها ولد المومن بعين وروح تطرحان الأسئلة، أكثر مما تقدمان/تطلبان إجاباتٍ، وهي العتبة الأولى لفعل الخروج "من الكتب القديمة" إلى أقاليمَ أكثر عذرية، في ظل تهافت أضحى مقرفًا على الأقاليم المستهلكة: "الوطن المرأة/ المرأة الوطن"، إلى درجة أنه بات أقصى ما يصل إليه الشاعر الشعبي الجزائري هو تحكّمه في الأوزان.

ما قيمة القصيدة إن لم تتورّط في الاحتفاء باللحظات والوجوه والأمكنة الحميمة؟

يحضر الوطن في أكثر من نص، لكن حضوره كان للمساءلة لا للتقديس، وللتعاطي معه بصفته فضاء للعيش لا العيش نفسه، وللحلم بغد مفتوح على الحرية، لا ذاكرة محققة/مكتملة، وليس أمام المنتمين إليها إلا أن يصونوها، مثل البيضة من الانكسار. ثم إن ولد المومن فرّق بين مفهوم الوطن/الدولة، بصفته ثوابتَ مشتركة، غير قابلة للمعارضة، والوطن/الحكومة، بصفته معطى متغيرًا، ومفتوحًا على النقد والرفض لسياساته. من هنا، نجد مستويين من الخطاب، عند تناوله لموضوعة الوطن، يضبطهما الوعي بأن البلاد ليست حاكمَها.

اقرأ/ي أيضًا: واسيني الأعرج.. ملهاة الجوع والغربة

ما قيمة القصيدة، بغض النظر عن لغتها، إن لم تتورّط في الاحتفاء باللحظات والوجوه والأمكنة الحميمة، ليس كما يفرضها التاريخ العام في المدارس، بل كما يطرحها التاريخ الخاص للذات الكاتبة نفسها؟ سؤال أجاب عنه ديوان "سيلفي" تطبيقيًا من خلال التقاطات ذكية ووامضة، للحظات عميقة بقيت عالقة في البال.

حاولت بعض نصوص ولد المومن، والتي لم يُعطنا فكرة عن تاريخ كتابتها، أن تستكنه روح الأشياء، خاصة تلك التي نعيشها يوميًا، ولكثرة ذلك، فإننا لا نلتفت إليها، من قبيل: "روح الوادي/روح الليل/روح الطين/روح الطريق/روح الظل/ روح الكأس"، ويلتقط معها سيلفياتٍ على السريع، فتغدو مقبوضًا عليها باللغة، تمامًا كما يفعل مصور يعي ما معنى القبض على لحظة هاربة. يقول في "روح الطريق": "مْشاكْ طريق حد التيهْ، وتقطعت بيه الحكايه/ كل الطرق اللي مشاتك نسّايه"، وفي "روح الكأس": "على غفله من الناسْ.. الكاسْ.. شْرَبْني".

يبدو أن الشاعر اتخذ من إصداره الأول هذا، مجمّعًا لنصوص انتمت إلى تجاربَ مختلفة وغير مكتملة له، وأراد أن يقتلها بالنشر، حتى يبرمج نفسه على تجربة جديدة، أكثر وعيًا بفعل الكتابة، لذلك، نجدّد القول إن أهمية "سيلفي" ليست في ذاته، بل بما يبشّر به من كتابات/كتب قادمة، لصوت أراد أن يدخل إلى الشعر من باب الصورة/العين، بعد أن دخله من باب العبارة/الأذن. 

اقرأ/ي أيضًا:

أندريس نيومان.. شعر يملأ فراغ الحاضر

تيسير خلف.. تدمر أكبر من مجرد آثار