17-يوليو-2020

من لوحات جبران

عند تأمل رواية "الأجنحة المتكسرة" لجبران خليل جبران ومقاربتها مع رسومه، ولدى محاولة التفكير في هذه الرسوم استنادًا إلى النزعة الرومنسية التي تنسب إليها أعمال جبران الأدبية يتوضح أن بينهما نسيج متين.

رسوم جبران إرث نادر في تاريخ الفن التشكيلي العربي المعاصر، فهي كثيرًا ما تمجد العريّ وتستمدّه من المقدس رغم وعورة المقاربة

كان جبران قد تدرّب بين عامي 1908 و1910 في "أكاديمية جوليان" (نسبة لمؤسسها الفنان رودولف جوليان) في باريس، وهي معادل المدرسة الوطنية للفنون الجميلة اليوم. صحيح أن أعمال جبران، التي يقارب عددها السبعمائة، لا تنتمي تشكيليًا تمامًا إلى المدرسة الرومانسية في التصوير على طريقة آنغر ودولاكروا، خصوصًا أن خامات تنفيذ العمل تلعب دورًا كبيرًا في تحقيق الاختلاف والتفرّد، فمعظم أعماله منفذة بالمائيات، إلّا أنها تحتفظ بروح الرومانسية، ويشبه البعض منها أعمال الحفار الإسباني غويا، أحد أبرز أسماء الرومانسية المبكرة منذ أواخر القرن الثامن عشر.

اقرأ/ي أيضًا: دموية الأخوين غريم والنزعة العضوية لدى جوزيف بويز

إن التصنيف النقدي للرومنسية يخصصها في ثلاث مراحل وفقًا للتتابع الزمني، وبذلك فهي شديدة الغنى والتشعب تاريخيًّا وجغرافيًّا ومن الصعب حصرها في تعريف مقتضب، لكن بإمكاننا الإشارة إلى أن أحد أبرز توصيفات الرومانسية أنها عُرفت كحركة مناهضة للمدرسة الكلاسيكية الجديدة، أي أنها اهتمّت بالابتعاد عن تمجيد الكلاسيكية الإغريقية في الفن، وأن فنانيها قد نزعوا نحو التعبير عن المشاعر والغوص في نعيم النفس وجحيمها لاستمداد الإلهام.

وبالرغم من ذلك، بالإمكان ملاحظة تقاطع مع ملامح السوريالية في بعض أعمال جبران، خصوصًا لدى تقديم تداخلات أعضاء الجسد مع عناصر خارجية غير بشرية، مثلًا العين تتوسط راحة اليد، يحيط بهما أجنحة سماوية ويحيط بالكل أمواج من أجساد عارية متكئ بعضها على البعض الآخر.

جبران خليل جبران في بورتريه ذاتي

في رسوم جبران المرهفة تتجلى روحه شفافة، عارية، مقدّسة. وإن هذه الرسوم لهي إرث نادر في تاريخ الفن التشكيلي العربي المعاصر، فهي كثيرًا ما تمجد العريّ وتستمدّه من المقدس رغم وعورة المقاربة. وهذه الثنائية شديدة الندرة والخصوصية. ثم إن أعمال جبران تنتمي إلى بعضها على نحو ملفت دالةً على رؤية تشكيلية محددة، يحميها إلى حد كبير أن جبران لم يتّخذ الفن يومًا مهنة، فبقيت أعماله حرّة صافية وشاعرية. إن تفرّد وأهمية هذا الرسوم، المائية منها خصوصاً، يأتي من كونها تحيل إلى إعادة التأمل في معنى الرومنسية لدى جبران، أي أن ننظر إلى روايته بوصفه رسامًا. ستبدو الخصائص الأسلوبية في روايته أقرب إلى حساسية عاطفية حرّة من كونها تقنيات تيار أدبي. فيبدو الرسام الكاتب ككيان تتملكه دفقات شعورية مفرطة، يعيشها في الحدث اليومي وتظهر في كل ما يستنطق. فهو على سبيل المثال، إذ يصف حدث موت جنين سلمى بطلة رواية "الأجنحة المتكسرة"، الوليد الذي سرعان ما توفي بعد مولده، يقول: "ولد مع الفجر، ومات عند طلوع الشمس، فأي بشري يستطيع أن يقيس الزمن ليخبرنا ما إذا كانت الساعة التي تمر بين مجيء الفجر وطلوع الشمس، هي أقصر من الدهر الذي يمرّ بين ظهور الأمم وتواريها؟". وهذه العبارات القصيرة المتعاقبة، والتي تذكر بالروح الفلسفية الأدبية لدى مارسيل بروست، تبدو متحررة إلى درجة كبيرة من قيود المدارس والتصنيفات.

يبدو جبران خليل جبران، كرسام كاتب، كيانًا تتملكه دفقات شعورية مفرطة، يعيشها في الحدث اليومي وتظهر في كل ما يستنطق

كان الكاتب القدير ثروت عكاشة قد كرّس دراسة بعنوان "جبران مصورًا"، ولولا أن نسخها نادرة، وأنني لم أحظَ بعد بقراءتها، كنت لأجزم بأهميتها في ربط رسوم جبران بأدبه، خصوصًا أن عكاشة هو من ترجم كتاب "النبي" الذي كان جبران قد كتبه بالإنجليزية.

اقرأ/ي أيضًا: حسّان بورقيّة.. مبدع الأساطير الذي تمتزج خطاه بالظلال

أتوقف نهاية مع هذا الاقتباس من "الأجنحة المتكسرة" يبلغ فيه جبران مبلغًا ساحرًا من الرومانسية، فيشير، وهو صاحب الخصوبة الأدبية، إلى بلاغة الصمت فيكتب: "فدنوت منها صامتًا وجلست بقربها جلوس مجوسيّ متهيب أمام النار المقدسة، ولما حاولت الكلام وجدت لساني منعقدًا وشفتيّ جامدتين، فاستأنست بالسكوت".

 

اقرأ/ي أيضًا:

الرؤوس البشرية في الحرب.. بين الترميم والاستباحة

شيرين نشأت وأزمة الجسد الإيراني