06-ديسمبر-2015

مجاهدون في سوريا (Getty)

لا يمكن إنكار أن الأناشيد الجهادية المرافقة للتسجيلات التي تبثها الجماعات الإسلامية المتشددة تحوي في داخلها جمالية من نوع ما، لا تلك التي تحكي عن الحرب وخوض غمار الوغى فقط، بل تلك الرقيقة منها، تلك التي تناجي الحياة البسيطة والاستسلام الكلّي للمشيئة الإلهية وخدمة الواجب المقدس.

أقصى العبادة هو الانحلال التام بالتعاليم من دون أية تساؤلات

لكن حقيقة، هناك غواية خفيّة من نوع ما يحملها مفهوم الجهاد، بصورة أدق، مفهوم الاستسلام الكليّ لفكرة، والإيمان الكليّ بها، بوصفها تفسّر الكون بأكمله والسعي للـ"جهاد" في سبيلها، فعالم القلق واللامعنى والبحث الدائم، يبدو متعبًا، لكن التسليم بالمتخيّل وقدرته على التفسير يدغدغ المشاعر، لا داعي للتفكير بمعنى لما يحصل، أو لماذا نحن هنا أو هناك، الطريق واضح، جليّ، المكاسب واضحة، والخسائر واضحة، إلى جانب المتعة الخفيّة التي يشعر بها "الجهادي" بوصفه ينفذ مشيئة مقدسة، بوصفه ضابطًا لفوضى العالم عبر تطبيق النظام المقدس، المتماسك، الكامل، الخالي من الخطأ، واضح المعالم، هو نظام فوق تاريخي ذو مرجعية واضحة، لا بشر يتدخلون، لا شفاعة في الحدود.

أما العنف فله معانٍ أخرى مختلفة عن تلك التعريفات الإنسانيّة التي نتملكها عن البشرية وقيمة الفرد، هي تدغدغ الوجود الجهادي، بل وتجعله منتشيًا، بوصفها سبيل للمقدس، تحاكي قوّة القدرة الكليّة، وتعمل وفق إرادتها، هي تنتمي لمنظومة مختلفة عن تلك (الإنسانيويّة) التي نؤمن بها، هي استحضار لمتعة الانحلال مع ذاك المقدس والالتزام التام بأوامره، أقصى العبادة هو الانحلال التام بالتعاليم من دون أية تساؤلات، هي كتفاحة الجاذبية، تسقط واثقة من مصيرها، هي التفاحة التي اعترفت بالجاذبية وانصاعت لها مبتسمة.

كذلك تحوي هذه الدغدغة معان أخرى مرتبطة بـ"الذبيحة"، القتل والتضحية العلنيّة، هي أقرب لطقس وثني برغم الصبغة الدينية التي تحملها، هي سبيل للانعتاق من النظام "الشرير" لصالح النظام "الخيّر"، وهذه الذبيحة لا تكتسب قيمتها القدسية إلا بوصفها "إنسانية"، في حالتنا، هي الإنسان نفسه، هي تضحية بأغلى ما في الوجود "الإنسان" لصالح هذا الوجود نفسه "الإنسان"، هنا الجهادي، يقدم نفسه كوسيلة، هو مطرقة إبراهيم التي حطمت الصنم، هذا الانصياع التام حد الذبح والتطبيق الحرفي لهذه المشيئة، هو راحة أبديّة، الوحشية المرتبطة بالفعل هنا لا تخضع للتقييم الاعتيادي- الإنسانيّة- ، نحن أمام شرعنة للوحشية عبر الصيغة الذبائحية بوصفها رفض للقيم الحالية، ومحاولة التأسيس للقيم الجديدة، هي كالمقصلة، أداة العنف المقدّسة، لكن هذه المرة هي (إنسان) الآلة الأكثر فتكًا، والأكثر قدرة على تبرير هذا العنف.

ما الذي يجعل الجهادي جهاديًا؟ هي تلك النشوة التي تخترق جسده بوصفه أداة للمقدس

بالعودة للأناشيد الجهادية، ما سر تلك الدغدغة التي تصيبنا سرًا عند الاستماع لها، ما هو سرّ هذه المشاعر والنشوة السريّة التي تراودنا، هي رغبة بالانعتاق، رغبة مازوخيّة سريّة، بالانصياع التام لما هو عُلوي ومكتمل، بوجه حياواتنا البسيطة الخالية من المعنى، انعتاق باتجاه الكليّة والتسليم بوصفنا أدوات، أدوارنا الاجتماعية واضحة ومحددة وتأديتها بأوجها يعني منتهى المعرفة، لا قلق، فقط، استسلام لتلك الدغدغة، نشوة لا متناهية.

نطرح السؤال الذي يطرحه الكثير من المفكريّن المختصين بالحركات الجهادية والمتشددة، ما الذي يجعل الجهادي جهاديًا؟، الجواب شعريّ نوعًا ما، هي تلك النشوة الطفيفة التي تخترق جسد الجهادي بوصفه أداة للمقدس، هو الانتصاب الناجم عن كونه يخترق الوجود بلذّة من يحكي سطوة الحقيقة، الحقيقة التي تعلو فوق كلّ منظومة تنتمي "الآن"، وتستعيد "هناك"، حقيقةُ إرادة الكُلِ الذي لا ينام. أمّا الأُضحية فهي نشوة الدرب للانعتاق، الانحلال في ذاك المقدس، هذه النشوة لا يتم الوصول لها إلا بدمّ، كفض بكارة، دماء هي سبيل العبور.

اقرأ/ي أيضًا:

دفاعًا عن "المجاهدين"!

عطوان وفودة.. داعش باقية وتتمدّد في الكتب