17-أكتوبر-2018

جولي نيكولز/ أمريكا

ثلاثة أسابيع قبل العرس

سأذهب وليكن ما يكن. انتهيت لتوّي من محادثتها، لينة الصغيرة صديقة الطفولة ورفيقة "الزمن الجميل". ما أكذب هذا المصطلح وأشدّ نفاقه، فهو يخفي كل البؤس والفقر والعوز، وحتى الأحقاد والضغائن القديمة التي ما زالت تشتعل خلف رماد الحاضر. ونحاول نحن أن نخفيها بفرشاة الزمن لتتحول كل هذه القماءات إلى "الزمن الجميل". وحدها لينة كانت "زمنًا جميلًا" عندما تتسلق على كتفيّ لتقطف التين والمشمش من بيارات الحارة، وتطلق معي رجليها للريح عندما يطلّ صاحب البيّارة فجأة دون سابق إنذار. اضمحلّ تواتر المكالمات معها تدريجيًّا بين مكالمات شبه يومية ولو تصبيحة صغيرة أشعلت ظلّ الغيرة الصغير عند زوجتي، لتصل إلى مكالمة كل بضعة أسابيع تتسربل بالصمت الذي يخفي خلفه كل الحيوات التي صرنا نعيش تفاصيلها دون إطْلاع أحدنا الآخر عليها.

لا زلت أذكر عندما كنت أغنّي لها مازحًا كلّما عدتُّ خائبا من مقابلة عمل في مجال الهايتك – بينما أعمل مؤقَّتًا معها نادلًا في أحد مطاعم المدينة – قبل أن أهاجر: "يا بنت خالي يا شاغلة بالي صورة بخيالي لا تغيب، يمر عام أشتغل آخر والجيب فاضي شي عجيب"، لقد تغبّرت تفاصيل صورتها لتختفي خلف تغبيش شاشة الحاسوب عبر برمجية سكايب، كأنّ هذا البرنامج جزء من مؤامرة لمسح الذكريات القديمة، أكثر منه للتواصل.

"بدي أروح واللي بده يصير يصير".

 

أسبوعان قبل العرس

أحاور ذاتي معنّفًا إيّاها على هذه الحسابات اللامتناهية لكلفة تلك الزيارة المكّوكية التي تشبه زيارات كيسنجر أيام الطفولة، لكنّي لا أستطيع ترك زوجتي مع ابني وحدهما، وبذلك عليّ شراء ثلاث تذاكر طائرة تكلّف حوالي خمسة آلاف دولار، وذلك عدى المصاريف الأخرى من سيارة وطعام ومسكن.

وفوق ذلك كلّه الآن، أنا في منصبي الريادي وسط مهمّة مركبّة في أهمّ مشروع لمستقبل الشركة. عملت بكدّ منذ وصولي إلى هنا خمس سنوات حتى وصلت إلى "هذه اللحظة التاريخية"، ولا أحد يعرف ما يكفي كي يبدّلني لفترة أسبوعين. والأهمّ من كل ذلك أنّني أنتظر ترقية آخر العام بأعقاب نجاح هذه المهمة، وقد وعدت ابني أيضًا بغرفة جديدة مع السرير الكهربائي المتحرّك بجهاز التحكّم، وزوجتي بدأت عملها قبل شهر ولا يمكنها الخروج في عطلة الآن.

يمكنني تخيل خيبتها تمامًا كذلك اليوم الذي وقفت به أنا ولينة أمام دكان يبيع البوظة، فقالت بصوت لا ينتظر صدى الجواب:

- "جاي عبالي بوظة"

كان في جيبي ما يكفي لحبةّ واحدة قد أَمْنيت نفسي بها أسبوعًا كاملًا، لقد جَبُنْتُ يومها وخانتني دناءتي، فَغَصَصْت وسكتّ. لقد وعدت نفسي يومها أنّني حين أكبر ستتوقّف النقود أن تكون عائقًا أمام اتّخاذي القرار الصحيح. وها هي الخمسة آلاف دولار تتراقص في مخيلتي ولو لتكون واحدًا بين أسباب كثيرة تلّوح لي كثوبٍ أحمر بيد مصارع ثيران ينتظر أن يغرز سيفه للمرّة الأخيرة في جسدي الدامي.

 

أسبوع قبل العرس

وصلتني بطاقة دعوة عبر الـ"واتساب"، مذيّلةٌ بجملتها الرقيقة "بدون ضغط". كانت دومًا هي الصغيرة القائدة الشجاعة وأنا مرتعد الفرائص خلفها أفاجأ دومًا من أين تتشرّب تلك الجرأة. أذكر ظهيرة يوم قائظٍ في صيف آب عندما خطّطتْ لسرقة تسالي من باب متجر الحارة حيث يكتسح الحرّ صاحب الدكّان الصغير فيغطّ في نوم الظهيرة وهو جالس على كرسيه. وقفتُ خلفَ صندوق الزبالة المقابل للمحل لفحص الطريق وكلمة السر لتنبيهها هي المواء إذا اقترب أحدهم. تسلّلتْ بكلّ خفّة والتقطتْ ثلاثة أكياس من رقائق البطاطا (شيبس) وعادت بكل هدوء دون أن يرمش لها طرف. أكلناها في الشمس ليقتلنا الظمأ قبل أن نجد حنفية ماء في الشمس شوت حلقنا وزادت الطين بلّة.

لقد فاتنا أن كاميرات مراقبة ذاك العصر كانت جارات يرقبن الواقع عبر الشقوق ولو بدا الواقع عبرها مشوّهًا وغير واضح من بعيد، لكن تدحرجت ما يكفي من الإشاعات لتصل التهم إلينا. شقّ عليّ منظرها –أو هكذا أحبّ أن أتذكر الموقف – الصامت بتحقيق الأهل فاعترفتُ بكل شيء، حينها فقط كانت المرّة الأولى التي رأيتها تذرف الدموع، أمّا المرّة الثانية كانت عندما فهمتْ أن سفري نهائي.

اللعنة ... لقد تجلّت لي الحقيقة الصاعقة المخيفة التي خطرت لي بالإنجليزية: "Crap, I’m never gonna be happy" (أبدًا لن تكتمل سعادتي عندما أُلزم أن أختار).

 

يوم العرس

لدي سبب واحد يحثّني على قطع نصف الكرة الأرضية معلّقًا بصندوق معدني لمدة يوم تقريبًا. بالمقابل لدي من الأسباب الكثير كي أمتنع عن بضع ساعات أقضيها برفقة من أحبّ.

في هذه الساعة تحديدًا وبسبب فروق التوقيت، سيكون الأقارب على ساحة الرقص في قاعة أبو ماهر الكبرى وصار ظرف النقوط المطرّز باسمي والذي يحوي ألف دولار الآن داخل الصندوق المعدني المصفح داخل القاعة. هي محاولتي العبثية لتخفيف الغصّة التي تراودني كلما تذكرت الأمر. هم الآن يتمايلون طربًا على أنغام مصطفى دحلة (وهو الوحيد الذي لا يرفع الصوت حتى يصم الآذان) وهو يستقبل العرسان بأغنية "اشتقنا كتير يا حبايب". بينما أنا أجلس أمام شاشة الحاسوب لألخّص الاجتماع مع إدارة المشروع، وآكل الساندويش الذي أحضرته من البيت اختصارًا لوقتي الثمين بالعمل. يأتي مديري ليصافحني – وذلك أمر غير مفهوم ضمنًا في هذه البلد – وينبئني عن انطباع رائع تركته على مدير المشروع، وأنّ هنالك مكافـأة عمل – سرّية – في طريقها إليّ. تتصل بي شركة التوصيلات لتركيب غرفة ابني الجديدة. زوجتي تبعث لي صورًا محفّزة من مكان عملها الجديد. سأمرّ على ابني بعد قليل لآخذه من مدرسة الحارة التي تعد واحدة من أفضل مدارس الولاية في واحدة من أفضل حارات الولاية وأغلاها.

ولكنّي رغم كلّ ذلك لا أعرف لماذا أشعر بهذا الجفاف في حلقي كأني أكلت ثلاثة أكياس من "رقائق البطاطا" دفعة واحدة، ولماذا تطاردني تلك الرغبة الحارقة بالبكاء؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

نصائح إلى عشاقٍ مبتدئين

الرواية الثانية لما قبل النزول