انطلقت مساء أمس، الإثنين 14 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، تظاهرة استعادية في العاصمة اللبنانية بيروت لبعض أعمال المخرج المصريّ داود عبد السيّد (1946) تحت عنوان "محطّات سينمائية لداود عبد السيّد". التظاهرة التي ينظّمها (نادي لكلّ الناس)، والمستمرّة حتّى السبت، الـ19 من تشرين الأول/ أكتوبر؛ أراد القيّمون عليها أن تتجاوز حدود العاصمة، من خلال توزيع عروضها على مدينة صيدا (سينما إشبيلية)، وبلدة غزّة في البقاع (مركز العمل للأمل)، بالإضافة إلى مدينة بيروت (دار النمر للثقافة والفن)، و(Mansion).

ثمة خيط يربط يوميات داود عبد السيد وحياته المُعاشة، وغير المنفصلة عن محيطه وهمومه، بما يصنعه سينمائيًا

استعادة "نادي لكلّ الناس" لعبدّ السيّد، مناسبة للعودة إلى تجربة المخرج المصري، وإعادة مشاهدة أفلامه المُنجزة في فترات مُلتهبة في بلاده؛ فترات سياسية واقتصادية واجتماعية أثّرت في عبد السيّد، وكادره، ومناخات تصويره، وكيفية إنتاج أفلامه التي هي، في مكانٍ ما، فرصة لإعادة مُحاولة فهم زمنٍ مضى، سنُحاول بناءً على تفاصيله فهم زمنٍ آخر راهن، يتشارك مع الأول القمع والتسلّط، ويتفوق عليه بما ذكرناه.

اقرأ/ي أيضًا: داوود عبد السيد بين "يوسف" الكيت كات و"يحيى" رسائل البحر

لا نقصد هنا أنّ صاحب "الكيت كات" يصنع سينما سياسية مبنية على مواقف وأفكار وشعارات جاهزة. ولكنّنا أيضًا لا نستطيع تجاهل الإشارات السياسية إلى أحوال بلادٍ تعيش تحت رحمة التسلّط، ويبدو فيها الفقر مُلازمًا للفرد، ولا يستطيع أي أحد فيها أن يُلغي حقيقة أنّ أحوالًا كهذه هي بلا شك، صنيعة الطبقة السياسية الحاكمة. وأنّ الاعتراض عليها هو اعتراض على السلطة أيضًا. داود عبد السيّد لم يكن بمعزلٍ عن هذه الأحوال إطلاقًا، وقلّما زاحت أفلامه عنها، باعتبار أنّها منبثقة منها أساسًا. وهناك خيط مُتكامل يربط يومياته وحياته المُعاشة، وغير المنفصلة عن محيطه وهمومه؛ بما يصنعه سينمائيًا. ويُمكن القول إنّ هذا الربط، يُأخذ على أنّه تعبيرًا مُباشرًا لرفض داود عبد السيّد للفصل بين همومه المُعبّرة عن مُحطيه، وبين مشاغل السينما عنده. إنّه، بعبارة أخرى، نوعٌ من الانحياز إلى كرامة النفس، وحرّية الفرد.

السينما التي يصنعها المخرج المصريّ، مُشاكسة وصادمة، وتنطلق من الواقع، لا من أفكار مُسبقة، أو أمكنةٍ ليس لها علاقة بالآخرين، تتبنّى تحريف الواقع بدلًا من المُساهمة في نقله بشكله الصحيح. صفة السينما الـ"مشاكسة" هنا كناية أو إشارة إلى قدرة عبد السيّد في وضع رفض السلطات القائمة في المتن دون أن تصير متنًا، ودون أن تنزاح إلى الهامش أيضًا. وهو بذلك يُتيح للمتفرّج، في معظم أفلامه، القليلة على أي حال، أن يُعاين سلطة سافرة تعبثُ بحيوات الناس. ومن خلال بعض التفاصيل الدقيقة والقليلة، لن تكون ملاحظة أنّ شرائط عبد السيّد تكشف وجوه العنف عند السلطة، صعبًا. ستتخزل أفلامه العنف في وجهين. الأول، وكما سنراه، عنف مُرعب ولكنّه عارٍ ومكشوف. بينما الثاني عنف مستتر، ومُبطّن توظّفه السلطة لاختراق تفاصيل حيوات البشر اليومية، وإحالتها إلى حياة أخرى تبدو فيها، رغم واقعيتها، غير واقعية. ولعلّ ما ذكرناه أخيرًا، أي الواقعية غير الواقعية، أو الواقعية المضادّة للواقع، هو الوصف أو العنوان الأنسب لتجربة داود عبد السيّد السينمائية.

أعمال داود عبد السيّد تُحاول تفكيك معالم الخراب والوهن التي تعتري المجتمع المصريّ. واستكشاف منابع العفن فيه. ومن هنا تحديدًا، يأتي صاحب "أرض الخوف" بالصدمة التي تُجاورها المشاكسة، لتُشكِّلان معًا عملًا سينمائيًا مُتماهيًا مع أفرادٍ مسحوقين تحت وطأة الخراب والوهن. المخرج المُنتمي إلى ما اصطُلح على تسميته بـ"جيل الهزيمة"، هزيمة 1967، جاء بقصص هؤلاء الناس دون أن يزيح عنها عاديَّتها، حيث سيضعها فيما بعد أمام عدسته، قبل أن يبدأ بوضعها فيما بعد ضمن مساراتٍ درامية عادية، بُنيت على علاقاتٍ إنسانية عادية، بين مجموعة شخصيات عادية أيضًا. ليس الأمر بهذه الصعوبة إذًا، ولا بهذا العناء كذلك. لأنّ العناء الفعليّ يكمن في بناء الطريقة أو الأسلوب الذي سيترك عبد السيّد عبره الأشياء العادية/ الواقعية مفتوحة على ما يُمكن أن يعبر في ذهن المشاهد، أو أن يشعر به، لأنّ ما سيراهُ أساسًا، لن تُرادفه أو تُجاوره أي تفسيراتٍ مُباشرة أو جاهزة.

لن يكون هنا، عند هذا الحد، مجال لإنكار انهماك صاحب "قدرات غير عادية" في هموم الناس غير الواقعية. نقول غير واقعية لأنّها ضدّ الواقع الذي نقصدُ به الواقع الذي من المفترض أن يكون قائمًا بدلًا من الحالي القائم على مجموعة عناصر لا تتردّد في سحق الفرد. هكذا، بات من الصعب تجاوز أو إنكار معارضة السلطة ورفضها في أفلامه. لأنّها، السلطة، مسؤولة عمّا سنراه من خرابٍ ينخر روح بشرًا، يختبرون التمزق والانكسار، الوهم والخيبة، والهزيمة الذي سيعيش المواطن المصري/ العربيّ تبعاتها طويلًا، غارقًا في ارتباكه الذي يُعطّل رغباته، ويؤجّل أحلامه، ويفتح حياته على حيرة واسعة ستتناولها أعمال عبد السيّد بحساسية عالية، لا سيما في تناولها للواقع اليومي البسيط والمُباشر.

داود عبد السيد، بشكلٍ أو بآخر، يتلصّص على كلّ مخفي في مستويات عيش الناس غير الواقعية، أو المضادّة للواقع

في تناوله لما ذكرناه أخيرًا، سيعتمد داود عبد السيّد، سرديًا، على مجموعة مشاهد تتولّى، في التحامها وانفصالها عن بعضها، وعلاقة الشخصيات التي تُشكّلها من خلال علاقاتها ببعضها البعض؛ عرض الحياة اليومية بعاديتها السهلة والغارقة في عاديتها. ولكنّ ما نذكره الآن عتبة أولى وتمهيد لانتقال صاحب "العمل في الحقل" إلى ما وراء الطبيعة، أو المكان المُضاد للواقع، حيث يختبر واقعيته غير الواقعية، وحيث المكان الأرحب للمخرج المصري لجهة ممارسة هوايته المُفضّلة: كشف ما يربط، سرًّا، الطبيعي/ الواقعي بما هو غير طبيعي/ واقعي.

اقرأ/ي أيضًا: 5 من أفلام إحسان عبد القدوس

المخرج المصري داود عبد السيّد مُنحاز للإنسان، لحريّة الفرد وكرامس النفس. ولن نحتاج إلى مستوى عميق من التحليل والتفكيك لكي نبيّن مدى كرهه للسلطة القائمة؛ كرهٌ وإن كان غاضبًا أو أهوج، إلّا أنّه أصيل، ومسؤولٍ في مكانٍ ما عن دفعه نحو الذهاب لالتقاط بوح الذات التي تواجه نفسها في ظلّ محاولات أطرافٍ عدّة تغريبها عنها، وكذا في مواجهة مجتمعها ومُحيطها والسلطة. وبعدسته، طارد بشرًا يسلكون مساراتٍ مشحونة بالاضطّراب والقلق وكذا التمزّق. أخذًا على عاتقه، بغضّ النظر عن نوعية أفلامه، فكرتها، أو تصنيفها، الحفر عميقًا في ذات الفرد والذهاب نحو الغوص في متاهات ما هو مُبطّن لاكتشاف وعي آخر غير ذلك الذي يتحكّم بسلوك الفرد وشعوره وتفكيره. إنّه، بشكلٍ أو بآخر، يتلصّص على كلّ ما هو مخفي في مستويات عيش الناس غير الواقعية، أو المضادّة للواقع.

 

اقرأ/ي أيضًا:

محمود عبد العزيز.. في محبة الرجل الجميل

سينما الممثل أم سينما المخرج.. صراع طويل خاضته السينما المصرية