12-يناير-2016

مؤيدون للنصرة في إدلب 2013 (Getty)

لم يشفع للناشط السوري هادي العبد الله وقوفه "الحصري" إلى جانب جبهة النصرة في تغطيته الإعلامية لأعمالها العسكرية وتمددها في سوريا، كما لم يشفع له أنه تعرض للموت أكثر من مرة ليقوم بهذه المهمة، لا بل لم يشفع له أن أبا محمد الجولاني، زعيم جبهة النصرة، اختار العبد الله مع عدد من الإعلاميين لكشف وجهه "النوراني" أمامهم في لقائه الإعلامي الأخير.

منعت جبهة النصرة كافة الفصائل الأخرى المشاركة في "جيش الفتح" من رفع علم الثورة السورية

يصف هادي العبد الله لحظات اعتقاله قائلًا: "داهموا مكتبنا، خلعوا الأبواب المغلقة، داسوا أغراضًا، صادروا جميع أجهزتنا، داسوا أعلام الثورة التي كانت في مكتبنا، لا بل إن أحد أعلام الثورة الذي رفعناه بمظاهرة أمس كان بقرب الباب من الداخل.. طرحوه أرضًا على باب المقر ليضطر من يدخل ويخرج أن يدوسه.. داسوه بأقدامهم عدة مرات..!! واعتقلونا أنا ورائد الفارس مدير المكاتب الثورية في إدلب بتهمة بث أغاني تحوي موسيقى في الراديو وكتابة بوست محظور شرعي".

بهذه الطريقة التي لا تختلف تكتيكاتها في بث الترهيب في قلوب الناشطين، عن عمليات الاعتقال التي تنفذها "مخابرات النظام السوري" و"مخابرات داعش"، تعرض أحد أبرز الإعلاميين الميدانيين في المناطق التي باتت تسيطر عليها جبهة النصرة للاعتقال من قبلها.

لنتذكر أن جبهة النصرة، مع انطلاق جيش الفتح، كانت قد منعت بعض الفصائل من رفع علم الثورة في إدلب، الظاهرة التي كانت غريبة حينها، وأن كثيرين ممن أقاموا الدنيا ولم يقعدوها من أجل رفع علم الثورة (الأخضر) في المؤتمر الصحفي بين خالد خوجة ولؤي حسين، لم يفتحوا فمهم بحرف حيال عدم رفع علم الثورة في إدلب مثلًا، لأن جبهة النصرة منعت كافة الفصائل الأخرى المشاركة في جيش الفتح من ذلك.

شيئًا فشيئًا يتضح لكثير من الذين أعماهم خطاب "جبهة النصرة" المعسول أن النصرة بالنسبة لداعش هي كالصنارة بيد الصياد، أو الطعم بيد المفترس، أما خطاب النصرة المعسول فيعود إلى حنكة "المتلاعبين" بالأحداث على الأرض السورية. هم يدركون جيدًا أن أغلب مسلمي بلاد الشام بشكل عام لا ينحون منحى التطرف، بل هم ممن اشتهر بهم إسلام بلاد الشام بـ"الاعتدال"، أغلبهم مهما تشددوا فلن يصل تطرفهم وتشددهم إلى مستوى تطرف داعش لا بل لن تقبل أغلبيتهم بفكرها أو تصرفاتها، ومما يثبت ذلك أن المظاهرات التي خرجت تنديدًا بممارسات النصرة أو القاعدة كانت من شباب ثائر شجاع لم يخش عنفهم وردة فعلهم، لكن آلة القتل والتصفية والتراخي عن مواجهة تمددهم الفطري في مناطق الثورة سمحت لهم وساندتهم في فرض سطوتهم ودكتاتوريتهم "الدينية".

يعود خطاب جبهة النصرة المعسول إلى حنكة "المتلاعبين" بالأحداث على الأرض السورية

كانت الخطة منذ بداية عملية "أسلمة" الثورة شق القاعدة لجناحين أحدهما الطعم والآخر المفترس؛ ولكن يجب أن يسبق ذلك القضاء على الحالة اللا دينية في الثورة، لنقل الصراع إلى مستواه الطائفي السني الشيعي؛ فكان السعي الدؤوب للقضاء على كل الفصيل الأقوى الوليد الذي سمي حينها بـ"الجيش الحر" الذي شكّل نواته الضباط المنشقون عن الجيش السوري ممن رفضوا استخدام العنف ضد الثوار لقمع ثورة الحرية والكرامة. كانت حالة مبررة حينها؛ خلال هذه الفترة اندست القاعدة في "الجيش الحر" عبر عناصر تونسية وليبية في البداية، تحت مسميات مختلفة خادعة ومنها الحالة العرعورية الشهيرة؛ ليتبين لاحقًا أنهم كانوا حصان طروادة الذي تسللت منه النصرة التي كانت بدورها حصان طروادة داعش؛ ثم بدأت مرحلة شق القاعدة التي تابع تفاصيلها الكثيرون في ذلك الوقت.

سوقت جبهة النصرة لفكرة أنها الرحيمة بالمدنيين صاحبة القلب الحنون التي تشارك في العمل الإنساني، فجذبت آلاف السوريين ممن جار عليهم الزمن وتخلى عنهم ما عُرف زورًا وخداعًا بـ"أصدقاء الشعب السوري" من الدول الكبرى، وأصبحوا إما تحت مقصلة النظام أو الانضواء تحت لواء الفصيل الأقوى الذي يمكنهم من الانتقام منه.

أما داعش التي شكل عمادها الأجانب، أو "الغرباء"، والتي أريد لها أن تكون الحالة السائدة في سوريا كما هو مخطط لتشويه ثورة الحرية. وعليه فإن هذه الحالة "الإسلاموية" التي كانت مرفوضة في البداية ويرفضها غالبية السوريين؛ أصبحت هي الحالة السائدة بعد كثير من التواطؤات، حالة احتاج فرضها لخطة جهنمية تتناسب مع نمطها الشيطاني للتلاعب بالجماهير، فكانت النصرة هي حصانها.

ما جرى سابقا ويجري من دخول داعش إلى مخيم اليرموك عبر حصانها الطروادي النصرة، واشتراك الأخيرين في حرب السيطرة على المخيم والتمدد منه إلى ريف دمشق مثال حي لتطورات الحرب في سوريا. توغلت النصرة في صفوف السوريين على أنها الحاضنة الأمينة لآلامهم التي كان سببها نظام الأسد المتوحش، لتكون كما الدسم في السم، أما داعش فهي السم عينه مع قليل من الدسم. وعليه أينما وجدت النصرة فتوقعوا ظهور داعش في أية لحظة، وحتى الجنوب السوري عبر بوابة درعا ليس استثناء، فإكمال فكي الكماشة لرسم "هلال القاعدة" منطلقًا من حلب، متمددًا إلى دير الزور وتدمر، وصولًا إلى درعا بات وشيكًا، ليصبح واضحًا أن القاعدة بشقيها داعش والنصرة باتت تسيطر على 80% من مساحة سوريا.

سوقت جبهة النصرة لفكرة أنها الرحيمة بالمدنيين صاحبة القلب الحنون التي تشارك في العمل الإنساني، فجذبت آلاف السوريين

انتبهوا جيدًا أنه عندما أسقطت إسرائيل طائرة حربية سورية بعد أن أعلنت جبهة النصرة سيطرتها على القنيطرة والشريط الحدودي مع إسرائيل، لم يقرأ أحد هذه الخطوة الإسرائيلية إلا في ضوء الاستهزاء من ضعف النظام وعدم قدرته على الرد.

ما يشي بتراخي إسرائيل عن تمدد جبهة النصرة في الجنوب السوري، يشكل مؤشرات خطيرة على استراتيجية الصراع في سوريا، فـ"تمدد" سرطان داعش على الحدود الشرقية والشمالية كان سببًا لغزو سوريا وتشكيل تحالف دولي لمواجهة خطر التطرف الإسلامي، كذلك حال النصرة في تمددها على الحدود الجنوبية والمتاخمة لإسرائيل، المسكوت عنه مرحليًا، هذا التمدد ومع انطلاق أعمال داعش في قلب إسرائيل مستقبلًا كما بات واضحا من تطور الأحداث، سيكون مبررًا لغزو إسرائيل للجنوب السوري، والحجة جاهزة : تأمين حدود إسرائيل من الإرهابيين والمتطرفين الإسلاميين.

لم يعد خافيًا على أحد أنه حيث تكون جبهة النصرة ستكون داعش مستقبلًا، فهما الجناحان اللذان يحلق بهما غراب الموت لـ"القاعدة"، فليس الفرق بين جبهة النصرة وداعش إلا كالفرق بين فرع "المخابرات الجوية" التابعة للنظام السوري وفرع "المخابرات العسكرية"، وبذات الأدوات التي اعتمدوها لبسط سيطرتهم على المناطق التي يسيطرون عليها.

اقرأ/ي أيضًا: 

العسّكر تحرّر.. بكاميرا النّصرة

الجولاني... طالبان ع البال