11-سبتمبر-2022
احتفالية فلكلورية كردية في غرب إيران

احتفالية فلكلورية كردية في غرب إيران

شكى أحد الأخوة العاملين في قسم العلاقات العامة في المؤسسة السياسية التي يعمل بها، أنه كلما طَلب من بعض الشخصيات السياسية كتابة مادة رأي بخصوص قضية ما لتسليط الأضواء عليها، وحتى تكون تلك القضية موضوع التداول لدى وسائل الإعلام في فترة زمنية ما، كان يصطدم ببعضهم وهم يقولون له: لسنا روبوتات حتى نكتب لك متى ما أردت مادة رأي، هذا بالرغم أن كل رصيدهم بضعة جُمل سياسية جاهزة لا تتطلب التفكير الزائد، وهم في مجمل مكتوباتهم السياسية لا يختلقون سطرًا أو  فقرة جديدة من بنات أفكارهم، إنما هي عبارات متداولة ويعرفها القاصي والداني، وأهميتها كامنة فقط بكونها تخرج من فم شخصٍ مسؤول، وحيث إن الأهمية للمكان والموقع الذي يشغلونه وليس لما يدلقونه على أسماع الرعية، عمومًا إذا ما كان هذا هو الحال مع السياسي صاحب الكليشيهات الجاهزة، فلا شك أن الأمر سيكون أكثر صعوبة مع العاملين في مجالات الخلق والإبداع.

إذ من بين ما يُتعب المبدع، وعلى وجه الخصوص الفنان، هو التعامل معه وكأنه آلة مثل الأورغ أو الطبل أو غيرها من الآلات التي لا تحتاج إلى الأحاسيس والمشاعر

إذ من بين ما يُتعب المبدع، وعلى وجه الخصوص الفنان، هو التعامل معه وكأنه آلة مثل الأورغ أو الطبل أو غيرها من الآلات التي لا تحتاج إلى الأحاسيس والمشاعر، آلةٌ خارجية في التعامل معها ولا شأن لها بالدوافع والرغبات الذاتية، إنما ولمجرد أن يُطلب منها أو يُضغط على زرٍ من أزرارها حتى تراها ملبية الطلب من غير جدال، بينما ذلك الذي يُطلب منه الخروج بشيء فكري أو فني فهو ليس آلة أو روبوت، إنما هو إنسان يتألف من كتلة كبيرة من المشاعر والأحاسيس، وحيث إن الميول والرغبات والدوافع والمحفزات يجب أن تسبق أي عمل أو نشاط عقلي لديه.

ومثلما يُفضل في فصل الشتاء القارس أن يتم تشغيل الجرار الزراعي أو السيارة قبيل الانطلاق بها بفترة زمنية وجيزة حتى تكون قد تهيأت للمسير، فالحالة نفسها تنسحب على الفنان أو الكاتب بشكل أكبر بكونهم بشرًا، وليسوا معادن صلبة كتلك الآلات التي ذكرناها، إذا تراه بحاجة إلى تمهيد يُسبق أي عمل سيقوم به وفتيلًا يُشعل بيدر العواطف لديه.

وكما لا يُستحسن في أي مطعم من مطاعم الشرق تقديم وجبة الطعام من غير مقبلات ومازات، الأمر عينه لدى الإنسان الذي سيقوم بأي مجهود متعلق بالخلق والإبداع، فهو قبيل التحليق في سماء الفنون ومباشرة الابتكار بحاجة إلى مولّدات أو ملهمات، وفي هذا الصدد لا أعرف مدى صدق الحدوتة من كذبها حيث يُقال بأن المطرب الكردي الراحل محمد علي تجو كان إذا ما دُعي إلى حفلٍ أو عرس، ولم يكن فيه نسوة كان حاله يغدو كحال من أُخذ عنوةً إلى الجبهات أوان خدمة العلم، ويقال بأنه ذهب يومًا إلى حفلة ولم يجد أي أنثى هناك، فقال لمن حوله على الأقل علّقوا فستان امرأة أمامي حتى تطاوعني أصابعي على العزف، وحيث إن وجود المرأة كان كافيًا لإلهامه ودفعه إلى الانطلاق في العزف والغناء، إذ كان للوجود النسائي دورًا بارزًا في تحريك الجوارح لدى الفنان الراحل محمد علي تجو.

وفي هذا الصدد أتذكر الكثير من المواقف التي كان يشكو منها مطرب الملاحم الفلكلورية الكردية عبدالرحمن عمر (بافى صلاح) في الفترة التي كنا فيها معًا في التسعينيات، إذ كثيرًا ما كان يُعبّر عن استيائه عندما يأتي أي نفر ويطلب منه أغنية من الأغاني الفلكلورية الطويلة، إذ كان صاحب الطلب يتصور بأن "بافى صلاح" ليس أكثر من آلة ومتى ما طُلب منه بمقدوره أن يلبي الطلب، علمًا أن الملاحم الفلكلورية صعبة جدًا وهي بخلاف الأغاني ذات الخمس دقائق التي بمقدر أي مواطن إسماع الآخرين عشرات الأغاني من نوع الطقطوقة في الجلسة الواحدة؛ بينما حتى المطرب المحترف فليس بمقدوره تأدية أغنية ملحمية واحدة في تلك الجلسة، ليس فقط لأنها طويلة جدًا بحيث قد تطول الأغنية ساعة كاملة أو أكثر من ساعة ونصف أو ساعتين إذا ما تخللت الأغنية العزف الموسيقي، إنما بكون الأغنية الملحمية تتطلب معرفة بالقص وإدراك أحداث الحكاية والالتزام بأصول المقامات والإلمام بمضامين الموضوع الذي يتلوه على أسماع الحاضرين، عدا عن النَفَس الطويل والانتباه إلى الرتم والأوزان الشعرية طوال زمن الأغنية، وضرورة الاقتراب من المناخ والأجواء والأزمنة التي تعبر عنها الأغنية.

ففي هذا الإطار يقول الفنان الكردي الثوري شفان برور بأنه عندما يغني (كريفي ـ kirîfê)، أو أي أية أغنية ملحمية، فإنه قبل البدء بالغناء يحاول أن يدخل إلى الأجواء والمناخات والظروف التي تحاكيها الأغنية حتى يستطيع إعطاءها حقها أثناء الغناء، وإلاّ فلن يقدر على التعبير عنها بحرفية عالية وإحساس قوي إن لم يدخل إلى قلب القصة أو الملحمة التي سيؤديها بصوته.

وبالعودة إلى شكوى "بافى صلاح" من الجمهور الملحاح والذي ينظر إلى الفنان وكأنه طبال أو زمار طوع بنان ورغبات الجماهير، كنتُ أعرف كيف أتعامل معه مداريًا حالته النفسية، وطوال مكوثنا معًا وفي مجمل اللقاءات التي كانت تجمعنا في ليالي السمر والطرب، فلم أطلب منه بأن يغني لي أية أغنية مع أني لم أكن لأملّ من الاستماع لأغانيه، والآلية التي تعاملت بها مع "بافى صلاح" والتي كانت تروقه جدًا، لأنها كانت مبنية على الإيحاء والتحفيز وليس الإلحاح  في الطلب، فكنت مثلًا إذا ما وددت سماع أغنية (درويشي عبدي ـ Derwîşê Ebdî) لم أكن لأطالبه بغنائها، إنما أذكّره بفقرة من الأغنية مع مقاربتها بفقرة أخرى جاءت في سياق ملحمة أخرى أو قام بغنائها مطرب آخر، ومن خلال هذا الاسلوب كنتُ بطريقة غير مباشرة أدفعه باتجاه عوالم الأغنية، لأن طريقة التذكير والمقارنة كانت كافية لإشعال أحطاب خياله، ولم تكد تمر الدقائق حتى كان يبدأ بالدندنة، ويقول لأقرب شخص من آلة البزق أو العود ناولني الآلة، ويبدأ بغنائها من دون طلب أو إحراجٍ أو إلحاحٍ أو إزعاج.

الحث اللامباشر وزراعة بذور الرغبة في أعماق الفنانين عفو الخاطر، والتحريض عن طريق المناورة  الإيحائية.. هو أفضل عملية وآلية للتعاطي مع الفنان أو الكاتب

ومناسبة ما قيل أعلاه هو أن يكف الإنسان في التعامل مع أصحاب الريش والأقلام وكأنهم يعملون فقط بالأزرار كأي آلة تكنولوجية مبرمجة، متناسين بأن اللعب على وتر الوجدانيات هو أفضل محرك لدفع مَن ذكرناهم إلى تقديم ما نريده منهم بأجمل حلة، ولكن عن طريق الحث اللامباشر وزراعة بذور الرغبة في أعماقهم عفو الخاطر، فالحثُ والتحريض عن طريق المناورة  الإيحائية هو أفضل عملية وآلية للتعاطي مع الفنان أو الكاتب.

لذا فإن كان أحدكم يود شيئًا معينًا من جماعة الخلق على اختلاف اختصاصاتهم وميولهم وفضاءاتهم، فالطريقة المثلى هي اللامباشرة القائمة على التشويق وتحريك الدوافع لديه بكونها الأنجح، وتأثيرها السلبي قليل جدًا مقارنة بالأسلوب الناشف والغليظ القائم على التكليف المباشر أو الإلزام الجلف من غير دستور، لأن الاستهلالات المحببة والعتبات الترغيبية بخلاف المنهج الآخر تعمل على التدفق والانسياب التلقائي الجميل.