يشعر كثير من الكتّاب أن الكلمات، وحدها، قد لا تكون كافيةً للتعبير عنهم. ومن أجل ترميم تلك "الفجوة"، يقومون بتطعيم كتاباتهم بالرسومات والصور. لكنها ليست دائمًا رسومًا بيانية أو تكوينات توضيحية، على ما نرى في كتب التنظير، يمكن لها أن تأخذ شكل لوحات غالبًا ما صادف، بكل ما تعنيه الصدفة من عَرَضية وانعدام ترتيب، إن وجد فيها الكاتب شيئًا من نصّه.

يواظب حسين الحاج على "تطعيم" إنتاجه الشعري برسومات فنية بين دفتي الكتب

لم يتخيل حسين الحاج نصوصه مطبوعةً في كتاب عادي. أو بطريقة أخرى، لطالما أراد أن تكون أشعاره عملًا فنيًا. ومن ثمَّ، مزج تلك الأشعار، المكتوبة بين عامي 2006-2014، برسومات رانيا صلاح الدين، التي كان أغلبها جاهزًا من قبل، وبعضها رسم خصيصًا للكتاب.

"باتمشى على شط بين جبال النثر

على شمالي وبحور الشعر على يميني،

وبادوس على الرمل بالراحة واسيب

آثار أقدامي.. بس لما فقت

لاقيتني واقف على سور شباكي!"

من هذا الشباك، يحكي الحاج، بشكل فردي ورومانسي وعاطفي، نفسه في "طيوف" (حزيران/يونيو 2015)، أول أعماله الشعرية بـالعامية المصرية عن دار "يدوية". وعلاقته بالمدينة هي المفصل الذي تلتقي عنده طيوفه. ليست نوستالجيا المدينة، ولكن ما حافظت فيه المدينة على نفسها: الزحام و"زعقة العربيات" و"القلق من التأخير على المواعيد" ونداؤها الدائم "الوقت الوقت". إلا أن كل هذا الضجيج الذي يستوطن المدينة لا يُمكن، عند الحاج، أن يحيط بالمرء كليةً.

"يعني إيه إنك تكون ضد وجودك الفعلي؟

يعني إيه إني أكون راكب في عزّ

الضهريه واسمع عبد المطلب

يليّل "يا ليل" ألاقي نفسي ماشي

لوحدي في وقت وزمان ومكان

تاني؟"

يُحب الحاج أن يشير إلى إعجابه الشديد بفؤاد حداد، شاعر العامية المصري، لبناني الأصل. ويرى أنه، على عكس عبد الرحمن الأبنودي، كان يكتب شعره من خيال الناس وليس لسانهم. بل إن الأمر يتعدى مرحلة الإعجاب بكثير. ويقول الحاج في مقابلة مع "ألترا صوت": "توقفت، بعد هذا الديوان عن الكتابة، لأنني لم أستطع الخروج من عباءة فؤاد حداد. ماذا بعد؟". ولعل عنوان ديوانه أبلغ دليل على هذا التعلُّق بالشاعر الكبير، ففيه يستلهم ديوان حداد "طيوف الجنة والكوثر".

بجانب هذا الأثر "الحدادي"، نجدُ في الديوان توثيقًا لعلاقة عاطفية، تصقلها الرسومات والألوان، عبر تواريخ وأمكنة وأحداث متخيلة وأخرى واقعية. يشكلها ليس فقط تاريخ المدينة، ولكن أيضًا المستقبل "الأبوكليبسي" المحتمل لها، وللعالم كله.

اقرأ/ي أيضًا: رسام "الكوميكس" عمرو عكاشة..صوت شبابي متفرد

"جواكي أمان. جواكي سلام. شفتك واقفه هنا فوق الدنيا، والسما بتقع فوقينا وكل شيء حوالينا بيطير شمال ويمين. شدتيني بنظره جوه عينيكي، بتقول كلام أكتر من اللي تقدر تقوله ابتسامتك، أكتر من اللي ممكن يتقال في اللحظة الأخيره من خراب العالم. آخر منظر قدام عينيَّ، دخان بينفس من بطن الأرض، السحاب بيرقص في العواصف، المدن كلها بتتفجر وتتطربق لتحت، والإعلان على كل الشاشات بيقول النهايه، لو دي النهايه متخليش شعرك يغطيني، هاتي إيديكي وتعالي ننط في الطوفان ونبحّر معاه لبعيد، عندي حنين لبكره ما يقدرش إمبارح يمسحه من صدري".

لا يبدو الحاج متمسكًا بالمدينة، ولا مدفوعًا بالحنين إلى ماضيها السحيق، ولا غضبه عليها أيضًا ينتهي إلى رفضها. غير أنه يحمل الحب معه خلال كل مراحل علاقته بها: بداية من شباك الغرفة، مرورًا بالتمشي ليلًا في الميادين، وليس انتهاء بـ "القيامة الآن".

"أنا الحب،

أوله وآخره،

قديمه وجديده،

راح أعلى فوق القاهرة

زيّ النبات

راح أعلى فوق سطوح المدينة،

وأدلدل من السما الرجلين.

أشد الوحدة على قلبي،

وأفتح في صدري بلد تاني".

 

اقرأ/ي أيضًا:

الفوتوغرافي نذير حلواني.. حين يكون هو المدينة

البيار".. تسلية شباب تونس لمواجهة بطالتهم"