05-ديسمبر-2016

لقطة لساحة التل في طرابلس (نذير حلواني/ألترا صوت)

يحوّط المصور الفوتوغرافي نذير حلواني نفسه بالحكايات. يوزعها بلطف في يومياته، وإن كانت كل منها لا تشبه الأخرى، إلا أنها تتآلف جميعًا في الذهاب أبعد من عين المصور، وأعمق من تجربته. هذه الأيام المتشابهة، ينتهكها نذير بعدسته. كأن يخلط مرويات مدينته طرابلس، الواقعة في شمال لبنان، بحكاياته الشخصية. ولا يهم، فهما سيّان. إذ يحلو للمصور الفوتوغرافي، الآتي من "نزق" الأحياء الفقيرة وناسها، أن يكون هو المدينة. يختصرها بتدوينات على "فيسبوك" أو على "بلوغه" الشخصي، وموقعه الإلكتروني وبحضوره الآسر في كل نشاطاتها.

يحوّط المصور الفوتوغرافي نذير حلواني نفسه بالحكايات ويخلط مرويات مدينته بقصصه الشخصية

وبعينيه تنبت للمدينة أذرع دافئة تخرج من كادراته لتلمسنا وتخفف عنا. كأنها بصور نذير، جدّة حنونة. لا نعرفها إلا معه. هكذا بسيطة، وأليفة، وكثيرة الحياء. هناك، في أمكنة منسية، وبعضها يموت، يخيط الشاب، سيرة مغايرة لطرابلس. وعن انطباعات الغرباء عنها. فهي في صوره مدينة "عادية" تمرر حياتها ببطء ساحر. لا أكثر من هذا: هي مكان مهما ابتعد عنه، يحمله في جيوبه. داخل "هارد ديسك" أو من خلال صور مظهّرة أو في "ذاكرة" كاميراته. وحين تستبد به الوحدة، يفردها جميعها، مثل طفل يفرد عباءات أمه في غيابها. 

ومن هذه النقطة، حاول نذير، أن يذهب أبعد من توثيق المدينة، ومشاركة لحظات أهلها مع أغراب الـ"سوشيال ميديا"، والصحف والمدونات. ابتكر مشاريع حيّة، للصورة أثر أساس فيها. فانطلق بمشروع "دراجة حواء" (Eves On Wheels)، الذي تحول سريعًا إلى مشروع تفاعلي، يؤكد عبره حلواني "قدرة" المرأة في مجتمعات التهميش على إفراد صوتها وجسدها وحضورها ككيان مستقل عن الرجل. إذ حاول من خلال صوره، إظهار المرأة كناشطة تتحدى قيود المجتمع "المغلقة" وتكسر نمطيتها.

يقول نذير: "حين كنت أمشي في السوق. تحت جامع المعلق. لمحت بنتًا تركب دراجة هوائية، وترتدي حجابًا. كانت الفتاة مسرعة ولم أستطع رؤية وجهها. وكنت مصرًا أن ألتقي بها، وأقول لها: "برافو". لأنها جريئة. ولديها قوة أن تركب دراجة في أكثر بيئات طرابلس تشددًا. وفي غمرة بحثي عن هذه الفتاة، تعرفت إلى بنات كثيرات، يستخدمن الدراجات الهوائية في تنقلاتهن. وشعرت بواجب كوني من هذه المدينة ومصور فوتوغرافي لكي أتيح للفتيات فرصة إيصال رسائلهن من خلال معرض فوتوغرافي يجمعهن".

تجربة نذير، التي ذهب بها أبعد من المعرض، أثرت في كثيرات من المجتمع المحلي. ومع إطلاق المعرض منذ أشهر، في "بيت النسيم"، استطاع حلواني أن يتواصل مع فتيات أخريات. جمعن كلهن في "كادراته"، مبتسمات ومبتكرات مثله للحظة خالدة. فهن كنذير اكتشفن باكرًا علاقتهن مع "البيسكلات". يقول: "لا أعرف متى بدأت علاقتي بالدراجة الهوائية. منذ صغري وأنا مغروم بهالقطعة الحديد، بتعطيني فرح وراحة وإحساس خيالي حين أركبها. لا شيء يشبه شعور ركوب الدراجة. أن تكون متعرقًا والدم يجري ويركض في عروقك وقدماك متعبتان لكن أن تعرف أنه يمكنك أن تكمل وتسابق الريح. هذا الإحساس لا يوجد مثله".

ويضيف: "الدراجة كانت بمثابة وسيلة لراحتي النفسية أحيانًا، حين كانت تضيق بي المدينة، كنت أنزل بها إلى كورنيش المينا وأعود لاحقًا متخففًا من كل همومي. حين كنت في عمر السابعة، صرت أجمع المال لأشتري واحدة وأول دراجة اشتريتها مع أمي كان سعرها ما يقارب 50 دولارًا".

اقرأ/ي أيضًا: اضحك الصورة تطلع من "المية"!

يختبر نذير، منذ عمر مبكر، تجربة التصوير، التي ترك من أجلها مرارًا، وبشكل مستقطع مهنته في الهندسة. وتبقى اللحظة الفارقة في مجال التصوير، حين كان يلتقط صورًا لجد رفيقه الأرمني في بيته في شارع أرمينيا (بيروت)، هذا الأخير أمسك فجأة يد نذير، وقال له بعربية مكسرة: "إنتبه ع امك". وكررها ثلاث مرات. هذه اللحظة لا ينساها نذير، وربما تحولت معه إلى حافز أكبر ليكون التصوير دليله إلى الناس وقلبه أيضًا.

لكن بدايات التصوير الفوتوغرافي كانت صعبة. لا سيما أن الشاب، الذي تورط في مسؤوليات مبكرة، حاول التوفيق بين هوايته وشغفه وبين صعوبات الحياة اليومية. "في بدايتي لم يشجعني أحد. كانت عائلتي مهتمة بالوضع الداخلي للمنزل والمشاكل المادية المتراكمة. كنت أحرص على الدوام أن أخصص جزءًا من معاشي الصغير، الذي كنت أتقاضاه في التعليم الخصوصي، لشراء كاميرا بـ100 دولار أمريكي"، ويضيف: "كان اقتناء أول كاميرا بمثابة حلم، لرغبة لم أعرف تفسيرًا لها. وهي رغبة تراكمت مع الوقت بأن اجمع أرشيفًا من الصور وأحتفظ بها. لكن كانت ظروفي لا تسمح لي بالاحتفاظ بكاميراتي، كنت دومًا أبيع القديمة لأشتري الأحدث منها. ومع الوقت ازداد شغفي، وصار لدي اسم في المهنة في لبنان والعالم العربي، وتحولت كاميرتي إلى أداة لأصبح مصورًا محترفًا".

اختبر نذير التصوير في عمر مبكرة وقد تخلى، في أحيان كثيرة، عن مهنته في الهندسة من أجل شغفه

يصبّ معظم تركيز نذير، في مجمل أعماله، على العناصر البشرية في صوره، كالأطفال والمرأة والعجائز، أي الفئات المنسية أو المهمشة في مجتمعات أبوية وسلطوية تحدّ من حضور هؤلاء. يقول: "منذ كنت صغيرًا، ليس لدي أي ارتباط بالأشياء المادية والمسطحة، ونتيجة لتطور حس الاختباء لدي والبحث عن الذين يشبهوني في الحياة، صار اهتمامي أكثر بالأطفال والمرأة، إضافة إلى المشكلات الشخصية التي كنت أراها وألحظها في بيتنا ولدى أقاربنا والأصدقاء، من فقر وطلاق وما هنالك، وهو ما ترك لدي رغبة دائمة بالثورة على العادات وميلًا لدعم الأقل حظًا في مجتمعاتنا".

يطلق نذير، إضافة إلى عمله ونشاطه في التصوير الفوتوغرافي، نشاطات متنوعة، هدفها التطوع وإشراك الشباب في المجتمع المحلي، وتحريك العمل الجماعي من أجل إدخال "بهجة" ناقصة على أطفال الأحياء الفقيرة، ومن مبادراته، التي تجمع شبانًا لبنانيين وسوريين من مناطق مختلفة، مبادرات مثل: "كلون واك" CLOWN WALK، و"أخبرني قصتك" و"فري هاغز". يقول: "أسعى من خلال هذه المبادرات إلى تفعيل حس الاستماع والمشاركة، خصوصًا بين الشباب ومجتمعاتهم الصغيرة، المتروكة والفقيرة. وهو ما ينمي شعورًا جمعيًا في التضامن".

اقرأ/ي أيضًا:

بائع الليموناضة الأخير في طرابلس

لبنان.. موسم الهجرة مِن الشمال