11-أكتوبر-2016

فنسنت عبادي حافظ/ تونس- فرنسا

 

"الجرائم المبنية للمجهول لا يقيدها التاريخ" 

خارج الزمن يأتي، على توقيت الخيبات يجيء، صار مثل الحب في زمن الحرب، مباغتًا مثل الموت في زمن الأزمة. أخيرًا يلتقيان بعد زمن لم يعد مهمًّا أن يُسأل عن طوله ولا عن مدته.

بفرح طفولي تسير إليه، وبصوت يكاد يعتذر عن الأشياء التي لم يتصفحها منذ أن غادرها كمطر ينسحب باكرًا من فصله دون سابق إنذار، وبشيء من الذهول يلمحها، لكن بصوت لا تنم نبراته عن أية مفاجأة يمد يده مصافحًا:
- كيف أنت؟
هل كان يقصد أن يقول لها كيف أصبحت؟
- بخير والحمد الله، ترد بصوت غائب عن صوتها.
يده مشغولة بمحاولة تعديل نظاراته كمن يهرب من سؤال لم ينتظره أو ربما لم يطرحه على نفسه قبل الآن.
- لا شيء جديد.
كان يريد أن يقول لها إنه لم يحقق شيئًا يُذكر بعد أن غادرته. 

فيما كان هو يتحدث كانت هي تتأمله بفرح متأنٍ هذه المرة، تتفحص وجهه، هيئته وأناقته الهادئة. ربما تريد أن ترتوي من تلك الملامح تحسبًا لزمن لم تنتظره. وفجأة قطع حبلَ تفكيرها. 
- توقعت تمامًا أن أجدك هنا فأنا أعلم حبك المجنون لمثل هذه الأماكن.
 ردت بشيء من اللامبالاة حتى تقول له فقط إنها تغيرت.
- أخطأت هذه المرة فأنا هنا استجابة لإلحاح صديقة تريد أن تضيع بعضًا من وقت لم تعد تعرف كيف تنفقه.
 كان يرغب في أن يقول لها: "كما عهدتك دائمًا كاذبة، فاشلة، تفضحك ملامحك، لغتك، وحتى حقيبة يدك، عبثًا تصرين على أن تكوني امرأة مثل الأخريات، أتعرفين أن الدخول في الصف لا يناسبك؟". لكنه عدل عن الكلام في آخر لحظة، مكتفيًا بإطراقة وابتسامة هادئتين تداريان الكثير من الأشياء.

 يتجولان في أروقة الكتب، تكتشف أنه لم يتغير في شيء، لا يزال يحب ذاك الجيل من الكتاب المتمردين، لا يزال يغني فيروز بصوته الرجولي الذي طالما أسرتها بحته الجزائرية التي هي مزيج من الحنان والقسوة في تناغم فريد.

لا أريد أن أكون بعيدًا عن واقعي، الهوة بيني وبين الآخرين تكبر وتتسع يومًا بعد آخر، يكبر الشرخ بيني وبين نفسي وبيني وبين الناس خيبةً بعد أخرى. كم هو مؤلم حقًا أن يحدث لك هذا، كم هو صعب أن يتعامل الإنسان مع واقع يصر على أن يتنكر له في كل شيء.

ألهذا الحد صار بعدها خاويًا؟ تسمعه يكاد يبكي في حضرتها، ليته يفعل. ربما سيتخلصان من ذلك الشموخ المزيف الذي جعل حياتهما مجرد مسودات كثيرة الهوامش والتعقيبات. لكنها تعلم جيدًا أنه لن يتنازل أبدًا عن جزائريته التي يمارسها بامتياز، خاصة أمام النساء. لذا اكتفت هي بقول تعمدت أن يبدو فيه شيء من الغباء.
- معك حق.. فهناك بشر عندما نلتقيهم نكاد نندم على حياتنا حتى لو كان لقاؤهم صدفة، فما بالك أن نعيش مع أشكال نتحملها عنوة.
على الأرجح فهم إشارتها تلك، فراح يجيبها المنطق نفسه:
 - ومع ذلك هناك أناس عندما نلتقيهم نعوض بهم ليس فقط ما فاتنا من خسارات، بل ما قد لا يكون أيضًا.

ما أتعسها لعبة الغميضة خلف الكلمات، فهي كالطريق الذي لا يفضي إلى أيِّ اتجاه، لذا اختارت الصمت دون أن تغامر بالمزيد من الكلام الأعمى. فقد حدث أن نسيت أنهما في مدينة واحدة يتنفسان هواء واحدًا وربما يسلكان الطريق نفسَه كل صباح، ويحملان الحلم والغيرة نفسيهما. فقد يفرحان على توقيت الأحلام المؤقتة، ويبكيان على النكبات ذاتها التي لا وجه لها.

يروح كل منهما يسرد على الآخر قائمة اهتماماته القديمة وجدول يومياته الذي لم يتغير فيه شيء منذ أن تعارفا ذات ربيع وافترقا ذات خريف. يسأل كل منهما الآخر تلصصًا على أخبار جديدة تكون قد تسللت خطأً إلى ذاكرته.

سرقهما الوقت بين رفوف الكتب وأوراق المؤلفات، تحدثا كثيرًا في ذلك المساء دون أن يقولا شيئًا محدّدًا. تحدث إليها في كل المواضيع والاتجاهات، فقط ليقول لها إنه المعاند والمكابر نفسُه.. لم يتغير. وكالعادة صمتت هي في أغلب الوقت، فقط لتقول له إنها لا تزال تلك التي تضع كبرياءها في مقدمة أي برنامج تكون بصدده. بعصبية الساهي نظر إلى ساعته: يجب أن أغادر، سألتحق بعملي بعد أقل من ساعة.

في زحمة الجمهور الباحث عن المخارج في اتجاه الباب، لمحته فجأة ينحني على أحد الرفوف، ويتناول كتابًا، لمع في مخيلتها شريط الذاكرة عندما قرأت عنوان الكتاب الذي كان يومًا بداية لقصتهما، فقد أحبته داخل هذا الكتاب مثل أبطال القصص الخرافية، وهي اليوم تحاول أن تنساه، بما يضاهي ذاك الكتاب عندما حاولت عبثًا أن تكرهه، فقد حدث يومًا أن وقف أمام طاولتها في مكتبة الجامعة، ورفع الكتاب بدون استئذان محاولًا التلصص على محتواه: "اعذريني آنستي.. فأنا رجل ضعيف أمام الأسرار المتوارية خلف دفتي كتاب".
 يومها لم تستسغ تعجرفه ذاك، لكنها أرادت للحظةٍ أن تستفزه لتزهو قليلًا بكبريائها أمام رجل. ابتسمت وأهدت له الكتاب:
 - لا أفهم كيف يمكن لرجل أن يضعف أمام كتاب، فعادة رجال هذا الوطن أن يضعفوا فقط أمام النساء والسلطة والمال؟
 لم يرد على سؤالها، ربما لم يشأ أن يفضح نفسه أمامها في أول لقاء بينهما، فقط اكتفى بابتسامة ذكية وهو يمد لها قلمًا:
 - أرجو أن تكتبي لي شيئًا عليه، فأنا أكره دخول بيوت الآخرين دون استئذان، لذلك كانت المدن التي لا تقاوم ولا تفتح بالغزو لا تثير داخلي الرغبة في الاكتشاف. بغباء أنثى راحت تكتب له صك امتلاكها على بياض دون أن تدري أن الجرائم الكبيرة عادة ما تبدأ بمجرد كلام بريء. وبخط مضطرب أمام البياض المتواطئ مع أناقة قلم أسود تنبعث منه رائحة عطر تكشف عن ذوق صاحبه، كتبت بلغة تعمدت أن تكون فرنسية حتى لا يفضحها حزنها العربي: "أتمنى أن تجد في هذا الكتاب ما يلهيك عن شن الحروب، احذر فعادة ما تكون المدن المسالمة أكثر خطورة من الحصون المسيجة".

تسمرت لحظاتٍ تحاول أن تمسك بشريط الذاكرة الذي ظهر لها موغلًا في البعد حتى أنها بدأت فعلًا تنسى تفاصيله. تكلمت لتقول بصوت منكسر: ما زلت تقرأ هذا الكتاب؟ بالنبرة ذاتها أجاب: كان يومًا ما مشروع وطن. كان... هذا الفعل الذي يقول اللغويون إنه ماضٍ ناقص، يحتاج دائما إلى شبه جملة تكون في محل الرفع أو الجر، وهذا حسَب النوايا التي لا يمكن دائمًا الإفصاح عنها مباشرة. بالنسبة لها لم يكن سوى بداية لعناد أخذها بعيدًا عن سبق إصرار على ارتكاب خيبة مبرمجة تبقى آثارها ماثلة على جدران وطن لم يعرف يومًا الحرية. ذاك الوطن الذي كان، ترى ماذا بقي منه؟ إلى أين وصل به شبه الجملة ذاك؟ هل رفعته أم نصبته على وقع الخيبة؟
وجدت نفسها غارقة في لعبة سخيفة مع النظام اللغوي الصارم، فراحت تسأل نفسها: لماذا اللغة دائمًا وقع مؤنث وفعل مذكر؟ للحظة همّت بأن تفتح معه هذا النقاش، فهي تعلم جيدًا عشقه للنقاشات الصاخبة، لكنها تراجعت أمام مفترق الطريق الذي يترصد خطاهما معلنًا نهاية "الكان".

مرة أخرى.. مصافحة عجلى وحديث مقتضب بالفرنسية، فالعربية كانت دائمًا لغة الأحزان الجافة والمنافي الكبيرة، هكذا أرادت يومها أن تقول له بفرنسية محايدة تجاه المشاعر وباردة تجاه القلب معلنة هذه المرة قتل أشباه الجمل التي غلفت حزنها لليالٍ عديدة.

اقرأ/ي أيضًا:

شكرًا لكِ يا سيّدتي

الكلمة