25-مارس-2022
لوحة لـ زبيغنيو ماكوفسكي

لوحة لـ زبيغنيو ماكوفسكي/ بولندا

ما زلت أذكر حين كتبت هذا النّص، في منتصف ثمانينات القرن المنصرم في باريس. كان يومها ثمّة كابوس يسكنني في أنّ مدًّا أسود سيجتاح الأرض والعقل والزّمن العربيّ، وكنت أبحث عن مخلّص، منقذٌ ما سيأتي على هيئة بطلٍ عربيّ أو حتّى أسطوريّ.

الحاضر كان عقيمًا والآتي ضريرًا، فلم يكن أمامي إلّا ما كان ورائي. أعدت قراءة كلّ الثّورات ابتداءً بالزّنج والبابكية إلى الإسماعيليّة - حسن الصبّاح وصولًا إلى القرامطة.

ما زلت أذكر رؤيتي تلك في القرامطة. حيث جسّدوا لي الثّورة النقيّة، الصوت الأجرأ الّذي زعزع كيان الخلافة العباسيّة المتهرئ.

كانت ثورة القرامطة ثورة علمانيّة بالمعنى المعاصر ساوت بين المرأة والرّجل وحرّرت أغلب بقاع الإمبراطوريّة الإسلاميّة

 

كانت ثورة علمانيّة بالمعنى المعاصر ساوت بين المرأة والرّجل وحرّرت أغلب بقاع الإمبراطوريّة الإسلاميّة، واعتمدت انتخاب زعمائها مباشرةً من قبل الشّعب كردّ على الوراثة، وكانت الممارسة السياسيّة الديمقراطيّة الأولى في التّاريخ العربيّ الإسلاميّ.

انتصرت هذه الثورة ووصلت حدود بغداد وكادت تسقطها، أيّام المعتضد الّذي تصدّى لها بقوّة واستطاع حماية بغداد. لكنّها ظلّت قائمة في الموصل وحلب شمالًا، والبصرة والبحرين جنوبًا.

نقل المؤرّخون المسلمون عنهم الكثير من الأخبار والقصص وأغلبها غير واقعيّ الهدف منه الإساءة والتشويه، لأنّهم تعرّضوا إلى حملة شعواء فكريّة وعسكريّة للقضاء عليهم ومحو آثارهم.

لكن هناك رواية يذكرها الطّبري كثيرة الدّلالة على حجمهم وسيطرتهم على مناطق شاسعة من جنوب العراق وهذه الرّواية مفادها أنّ الخليفة المعتضد عندما أرسل القائد العسكريّ لمواجهة القرامطة وأمره بقتل كلّ قرمطيّ يقع بين يديه. ولكن القائد العسكريّ الّذي نجح في الانتصار عليهم طلب من أنصاره أن يقوموا بجمعهم في معسكر كبير جنوب البصرة ليقوم بقتلهم جميعًا حسب ما أمره الخليفة. وعندما جاء لينفّذ الأمر بتصفيتهم. اكتشف أنّ كلّ فلّاحي السواد (اسم العراق في الفترة العباسيّة) هم من أتباع القرامطة. فأرسل رسولًا إلى المعتضد يخبره أنّه إذا نفذ أوامره بقتل كلّ قرمطيّ "سيصير السواد بوارا". لم يبق أحدٌ من الفلّاحين الّذين يزرعون الجنوب، هذه الأرض الّتي سمّوها السّواد بسبب كثرة ظلال النّخيل والاشجار فيها، لكنّ المعتضد عندما سمع بذلك أرسل إلى القائد وأمره بأن "يخلي سبيلهم ويأتيه برأس صاحبهم" وهكذا كان.

العربي-التلفزيون

باختصار، لقد كانت حركة تمرّد قويّة جدًا فقد دخلوا مكّة وسرقوا الحجر الأسود الّذي أعاده الفاطميّون لقاء مقايضته بالذهب آنذاك.

أقاموا عاصمتهم في البحرين وسمّوها "هجر" والاسم كثيف الدّلالة.

لم يبق اليوم من هذه العاصمة حتّى الاسم، محت السّلطة الإسلاميّة كلّ أثرٍ لهم لم يبق منهم لا حجرًا ولا ذكرا.

هنا علا صوتي وقلت "سيّدي القرمطيّ" وكانت هذه القصيدة.


قال لي القرمطيّ،

على صهوةٍ ضامرة

حملت حدودي

بلادي انقضاضٌ وجرحي قوافل ما تركت رملتي

قصدت إلى هجر

أن تكن الحقّ

أو ترتضي مأتمي

حزنًا متخمًا بالقبائل والغزو

كلّ الأقاصيّ تقصدني

والقداسات تقرض كفني

بين حلمٍ أكابد قبل الرّحيل

وقبرٍ بلا جثّةٍ في صهيلي

النّفايات أعمدة الحكمة المستديرة،

لقمان قال

وكنت له شفرةً،

كان بيني وبين الرّمال

عقودٌ من السدر والنّخل والبدو

أنثرها في سديمٍ من القول

أو في عراءٍ من الضّوء لا يرتدى غير شمسي

أنا كاهلٌ للمساجد قاحلةً

يكبر البدو في الثّكنات

وتبقى الصّحارى،

نفقًا يصل الجثة العربيّة

باللـه

تبقى الصحارى

رداء النبوّة في ليلة العرس،

عذراء،

شاهدها الجرح

تبقى الصحارى

رمالًا لبست بها العري والضّوء

في موكبٍ قاحلٍ صار وجهي،

والصحارى النبوءات

ما كشفت سرّها لإلهٍ

هو الصّوت يبدأ بالشّفتين

ويسقط شلوًا

تظلّ القبائل تقضمه بين حينٍ وحين

- قال لي القرمطيّ،

ذراعي

أقطعها

وأقول وداعًا

لفرسان هذا الهزيع الأخير

فلن ينحني الرمح فوق الفريسة

إذ تتناسل في الطّعنات

أنا الحجر الأسود المتخثر

في وطنٍ شائخٍ هدّمته القبائل في رحلة الأنبياء

أنا الحجر المتمدّن كالظلّ في رايةٍ للخليفة

أنا الفرس المتوارث أصهل عبر المدائن

عند نساءٍ سمرقند

الجنان التي عانق البدو عاريةٌ

والجزيرة عاقرةٌ

لم يعد غير وجهي

بيرقًا أسودًا وقافلةً وأبابيل

- سيّدي القرمطيّ،

أتيت إلى دكّةٍ في تخوم الصحارى

وكانت بقايا بلادٍ ومجزرةً

من ربوع الخلافة

تضيء النذور مصابيحها

وأفياؤها جزرٌ كالمنافي

بنيت لها سجفًا وأسكنتها عقر داري

- قال لي القرمطيّ،

ردائي نارٌ

وصوتي فاتحةٌ للرّماد

ولكنّني خرسٌ يرتدي الأبجدية

والعربية لا تقرأ الحلم في الصّلوات

ولا تعرف السمّ في غيمةٍ

صدأت مثل سيفٍ من البدو والطعنات

-سيّدي القرمطيّ،

على هيكل الحرف أفضي إلى جدثٍ وبلادٍ

أكون لها شجرًا

        وهجيرًا

على هيكل الحرف أسند شاهدتي

أمدّد هذا القتيل المسمى عراقا

وأجثو على جمرةٍ من ردائي عناقا

لحاءٌ عرائي

وأشجارنا في اليدين

وما في السّواد عداك

دمٌ للسّواد

ما في المدائن

لا سبي

لا غنم

إلاّ ضباعٌ تنام على جسدٍ وخواءٌ

هو الصّوت إذ يمحي ما تقول

فقل قّد شهدت القتيل

وقل قد نسيت الشهادة

قل إنّك السفح والسّهل والقفر

التضاريس تبدأ في الشّفتين

وقل إنّ دارك لا سقف لا ظلّ

بابك موصدةٌ في العراء

ولكنّك القرمطيّ

قرونٌ من الغضب المترمّل

تابوتك المشرقيّ

مساميره رصّعت بالنبوءات

والشّرق حائطك المنحني

ترتقيه صليبًا وجنحًا

لك الموت تعويذةٌ وسلام

- قال لي القرمطيّ،

صعدت إلى مئذنة

وبادلتها غيمةً مؤمنة

هو الشّرق مئذنةٌ للخراب

غلالٌ

وأغلال

ما أصحر الأفق موت الطيور

تشيخ المآذن في خندقٍ

تصير ديارًا، بلادًا، مدائن للفتح

والصّوت منفاك

لكنّك القرمطيّ قرأت وصلّيت لليل

دينًا إلى الفجر

 

آمنت بالميّتين على سجدةٍ في الصّلاة

وبالأرض تسرج

كالصهوات

سأوقد ظلّك يا سيدي القرمطيّ

وأفتح نافذتي

للصحارى وللّيل تّدخل بيتي

وتهجر خارطتي العربية.

 

  • تحت عنوان "جهة الصمت الأكثر ضجيجًا"، يطلّ الشاعر شوقي عبد الأمير على قرّاء ألترا صوت أسبوعيًا في حديث أو مقالة في محبة الشعر وأهله.