10-يناير-2016

جمال مبارك (Getty)

تبدو التفاصيل مرعبة. أستاذ سياسة واقتصاد شهير يطلّ على التليفزيون بعد نجاة جمال مبارك من السجن، ويردد إنه أفضل من يتولى رئاسة الجمهورية في الفترة المقبلة. لماذا؟.. يقول: "لأنه ابن رئيس وعينه ملآنة، وشبعان، وسيراعي الله فينا إن لم يكن من باب التقوى والإيمان، فمن باب إنه لا يريد شيئًا.. لقد رأى كل شيء".

ثمة من يرى أن جمال مبارك هو أفضل من يتولى الرئاسة في الفترة المقبلة، "لأنه ابن رئيس.. وشبعان"!

بالنسبة لي فإن حكم "القصور الرئاسية" بحق مبارك ونجليه لا يعني أكثر من أن أثبت لأستاذ العلوم السياسية أن "جمال" لا يصلح للرئاسة من نفس الأرضية التي يقف عليها، ويطلق فتاواه وصواريخه، هو يقول: عينه ملآنة وشبعان وابن رئيس.. والحكم يقول: حرامي، وعينه فارغة، وأبوه رئيس "مخلوع ولصّ".

الحكم لا يعلق الجرس في رقبة حسني مبارك، فـ"الرجل الكبير" على وشك أن يموت، يرقد الآن في مستشفى المعادي العسكري بالقاهرة، يحوم حوله عزرائيل كل ليلة، ينوي أن يقبض روحه بالطبع، لكن ترتيب القدر -الذي يأتي بما لا يشتهي دائمًا- أراد له أن يشهد نزع رتبه العسكرية ونياشينه وأوسمته وهو على قيْد الحياة. 

جمال مبارك هو المستهدف. بعد ساعات من الحكم، طلبت من معتصم فتحي، ضابط الرقابة الإدارية، الذي ظلّ وراء القضية حتى صدر الحكم النهائي بـ"لصوصية مبارك ونجليه"، أن يتكلم الآن، ويفتح درج وثائقه للرأي العام، فكان رده محبطًا: "أنا خارج مصر وأعتذر عن أي حوار.. الحمد الله على عودة جزء من المال المنهوب وربنا يكرم إخوتنا وزملاءنا الأفاضل وأبناء مصر المحترمين من إعادة الباقي". لماذا لا تتكلم عن الجزء الذي لا يزال منهوبًا؟ يجيب: "إن شاء الله لما تتوفر النية والإرادة والمناخ الملائم، العادل، سوف تظهر كل الحقائق".

يرى "معتصم" أن الوقت الآن غير ملائم لظهور الحقيقة، رغم أنه كسب قضيته ضد رئيس سابق مدّ جذوره في عمق أرض مصر لمدة ثلاثين سنة، ولديه دولة عميقة، وموظفون، وحواريون، وأسطول قانوني دافع عنه على رأسه فريد الديب، فهو يعتقد أن الحكم ليس لوجه الله وحده، لكنه سياسي غرضه إبعاد جمال مبارك، ومحوه من معادلة الانتخابات والحكم في مصر، بعد أخبار مؤكدة عن نيته العودة.. ولذلك، وليس لأي أسباب أخرى، صدر الحكم اليوم.

خبر جمال مبارك الحياة بكل صنوفها، من العرش إلى البرش، ومن البدلات الفاخرة إلى البدلة الزرقاء

جمال، أو "جيمي"، شبح لا يريد أن يغادرنا، ولا تريد الصحف أن تغادره، سيتوقف أمامه التاريخ طويلًا، وهو يتلقى علاجه النفسي، ويروي كيف كانت البلد كلها تتجه إليه ثم فجأة انهارت أحلامه ووجد نفسه في السجن. لقد خبر الحياة بكل صنوفها، من العرش إلى البرش، ومن البدل الأمريكاني والإيطالي إلى البدلة الزرقاء، وترنج السجن الأبيض، كان شاهدًا على فساد عصره، وشريكًا فيه، وتحديدًا في قضية "القصور الرئاسية"، حيث ساهم المصريون في تجهيز غرفة نومه وديكوراتها.. واعترف على أمه "سوزان" في التحقيقات، كاشفًا أنها لا تزال تقيم في قصر "العروبة"، المملوك للدولة، حتى بعد زوال الحكم والملك والقصور عن العائلة. 

كيف؟.. طرح أحدهم السؤال، ووجد أمامه عالمًا روائيًا مهولًا يفتح النور على سوزان، فقد حاولت سرقة قصر العروبة في عملية فساد معقّدة، حسب وصف النيابة العامة: "تم بيعه سرًا في عام 2002 من الدولة المصرية لسوزان مبارك التي قامت بتسجيله باسمها الأصلي". 

ومن أجل إتمام صفقة البيع تم تصميم عملية معقدة قامت الخزانة العامة بمقتضاها ببيع القصر كملكية عامة إلى جهاز المخابرات العامة، الذي قام بدوره ببيعه إلى شركة خاصة تملكها المخابرات باسم شركة "فالي للاستثمار العقاري"، التي باعت القصر فيما بعد كملكية خاصة لسوزان. وبعد أربعة أيام قضتها في سجن النساء بالقناطر تم إخلاء سبيلها وحفظ التحقيق معها". 

بنفسية "ابن أمه"، أدخل جمال سوزان سجن القناطر لثلاثة أيام، أراد أن يبعدها عن دوامات التحقيق فدفعها إلى قلب القضية الوحيدة التي حملت للعائلة سجل سوابق، ففي الوقت الذي أدار خلاله الحزب الوطني، كانت تشتري طقم سفرة من اليابان، ومفرشًا من الهند، وحجرة كريمة من كربلاء، وتحفة من مزاد بأمريكا، وفازة من إسطنبول، ولوحة من معرض فاروق حسني، لتقفيل تشطيبات القصر، من خزائن وزارة المالية، وعلى حساب صاحب المحل.

أن تكون أهم رجل في مصر، ثم تجد نفسك "سوابق" و"حرامي"، هذه أكبر أزمة نفسية في التاريخ

كيف يعيش جمال مبارك الآن؟.. سيكون موصومًا بتهمة مثبتة في الأوراق الرسمية تمنحه لقب "سوابق"، وتمنعه من المشاركة في الانتخابات لـست سنوات كاملة. أمامه باب خروج. يمكنه الآن أن يهرب بما استطاع أن يؤمّنه لنفسه طوال سنوات السياسة والحكم والسجن، فأن تكون أهم رجل في مصر وتحرك 90 مليونًا بإشارة من إصبعك ثم تجد نفسك "ردّ سجون" و"سوابق" و"حرامي" في نظر جيرانك، ورجالك، وأصدقائك، وصحيفتك الجنائية، هذه أكبر أزمة نفسية في التاريخ. 

"جمال" في ورطة: أراد كرسي الرئاسة -كان على بعد شهور منه- ولن يحصل عليه أبدًا، يشعر أنه غير متحقق، فما أراده بين يدي رجل آخر.

صلِّ صلاة مودع، واهرب.

اقرأ/ي أيضَا:

بابا نويل يستقيل ويطلب الهجرة من مصر

مصر.. إنها حرب المياه