18-نوفمبر-2018

ثلاثي أين

كفنّ تجريدي، لا تمنحنا الموسيقى مضامين إلا وفق بنيتها اللحنية وقواعدها. والقاعدة الشرقية، ترى أن اللحن يستوفي خصائصه من التقارب وملء الفراغات.

لا تمنحنا الموسيقى مضامين إلا وفق بنيتها اللحنية وقواعدها

في عمله الأخير، "ثلاثي أين"، يستعيد الموسيقي الفلسطيني باسل زايد المزاج الشرقي عبر استمالة عناصر موسيقية متعددة؛ لكنه قبل كل شيء يؤكد قاموسها العالمي. إنها مزيج من الابتكار اللحني وما يمكن تسميته: ألحان على الألحان؛ أي عناصر تتشعب وتلتئم في نسيج متنوع الخطوط اللحنية، ومتوالد على طريقة الحكايات الشهرزادية.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبة نصير شمّه

بعيدًا عن التوالد الموسيقي، حيث تندمج عناصر موسيقية متعددة داخل كل عمل على حدة، يتشكل في "ثلاثي أين" خطًّا سرديًّا واضحًا، إلا أن هذا الخط لا يبدو مرئيًا، بما أنها أعمال غلب عليها التأليف الآلي، فليس هناك محتوى شعري ننسج حوله هذا التصوّر.

يتألف "ثلاثي أين" من تسعة مسارات، سبعة منها مؤلفات تنتمي إلى الموسيقى الآلية، وأغنيتان. يمكننا القول إنه اتجاه معاكس لذائقة عربية لا تمنح الموسيقى أهمية كبيرة خارج الغناء. إلا أن مغامرة باسل زايد تتعدى هذا الاتجاه الشكلي، بما أنها تتيح للمضامين الموسيقية الشرقية بنى لحنية تعبّر عن ثيمات تبتكر جزيئاتها من تصوراتها الكلية. وهذا لا يتعلق، حصراً، بالحضور الصوفي أو استدعاء ثيمات مرتبطة بجذوره الفلسطينية من خلال مسميات الأعمال، بدءاً بـ "عنف"، مروراً بـ "حاجز" و"مدينة"، وانتهاءً بـ "فرح"، إنما بالتراكيب اللحنية التي تمنح القالب سمات تتقاطع خلالها الموسيقى المرسلة بالمنمنمات الزخرفية وتتوالد خلالها العناصر الموسيقية. إنها مزيج من الانبثاق والتبادل الزمني، سواء بين الآلات، أو الخطوط المتتابعة.

تؤكد مغامرة زايد على مساحات واسعة، غير مُستغلة للموسيقى العربية، ما زالت بحاجة إلى العمل عليها لتطوير بنيتها الشكلية ونزعها من التمظهر المقامي. كما أن زايد يواصل تحديه لتعزيز شخصية لحنية لا تنحصر بإملاءات ذائقة رائجة تتحكم بسوق الموسيقى في العالم العربي. هي تجربة لا يمكن حصرها على "ثلاثي أين" وأعمال زايد، بما أن هناك تجارب عديدة، لسنا بصدد قراءة إنجازها، وإن احتاجت إلى مزيد من الاجتهاد.

يستخدم باسل زايد معرفته الموسيقية من دون السقوط في توليفات مختبرية، تعتمد على تجميع عناصر لحنية من هنا وهناك. فثمة محرّك تعكسه صورة الفنان أصالته اللحنية.

يستخدم باسل زايد معرفته الموسيقية من دون السقوط في توليفات مختبرية

غير أن عنوان "ثلاثي أين" قد يبدو خادعًا إذا نظرنا له فقط من زاوية استخدام آلات ثلاثية، وجميعها وترية؛ الكمان (ليث صدّيق)، والتشيلو (نسيم الأطرش)، والعود أو البزق (باسل زايد). هي آلات شرقية في أصلها أو جذورها، إذا استثنينا التشيلو لمسحته الغليظة بجذوره الغربية، بما أن اللحن الشرقي يميل إلى الحدة المتوسطة.

اقرأ/ي أيضًا: خبز دولة.. موسيقى بهيئة رغيف

وبعيدًا عن حضور التصورات الثلاثية الحاضرة في الفكر الصوفي الإسلامي، أو المسيحي، وأيضاً في مركزية المفاهيم الفلسفية؛ إذ أنها تفتح أبواب التأويل خارج الموسيقى؛ فإن أي استنتاج خارج الموسيقى لا يمت للعمل بصلة. لكن الحضور الثلاثي للآلات، يقابله هذا النشوء الذهني والوجداني الذي أقيمت حوله مفاهيم العالم، تتمثل فيه ما يبدو محاولة احتواء عناصر موسيقية تنزع إلى الانصهار الكلي. فهل هي علاقة بين جوانية، وخارج، وعقل أعلى؟

ولأن ما يهمنا في الأمر، الشكل الموسيقي، والبنية اللحنية، فإن الحضور الثلاثي تشكله الثيمات اللحنية؛ ذلك المزيج بين تراث الترانيم المسيحية الشرقية والتصوف الإسلامي، والموسيقى المتوسطية. كذلك يهمّنا الفضاء الواسع الذي تتآلف حوله عناصر متنوعة، من الراغا الهندية، إلى الفلامنكو الأندلسية، التي تمتدّ على سجادة شرقية.

وأبرز ما نُلاحظه في الإصدار الجديد، هو ذلك الحضور السردي لمقطوعات "ثُلاثي أين"؛ حضورٌ يحتمل صورًا مركّبة من المضامين اللحنية. يمكننا تتبّع هذا الأمر من القطعة الأولى، "عنف"؛ إذ تنطلق ضربات العود من جوابات مرتفعة تحيلنا إلى صوت الفلامنكو، لكنها، لاحقاً، تجسّد جنونًا يحيله الكمان من القرار بلحن حزين تضفي عليه خلفية التشيلو ملمحًا مأتميًا، أو ما يمكن تصويره في بكائية الكرد التي تتخلل التقطيعات الزخرفية، كما لو أنها مساحات لزركشة غير مُقحمة؛ فالغرض ليس ملء الفراغات، بقدر ما هو إضافة حسية جمالية تميز اللحن الشرقي.

يظهر البعد السردي في التوظيف المقامي لكل عمل على حدة، وفي الصورة التعبيرية المجازية للمؤلفات كلّ على حدة. فمن "عنف" في أول القائمة، يعود الكرد في "حاجز"، القطعة الخامسة، حيث تحضر فيها آلة البزق كبديل للعود بجرسها الأكثر حدة، ثم تتلوها مباشرة "ترقُّب" من مقام النهاوند. وتحيلنا المقطوعة إلى مزاج متوسطي يمتد من اليونان، عبورًا بتركيا، وصولاً إلى الشام، في تلاقح حاضر منذ قرون طويلة.

في مقطوعة "ترقُّب"، يلعب البزق توطئة لدخول صوت الكمان المتناوب مع التشيلو بلحن يوحي بالحنين، يصبح فيه البزق صوتًا ثالثًا مع استبدال صوت النقر بالكمان. هل تصوِّر الألحان فاجعة ما؟ ربما تلك التأويلات تصبح مضمونًا ينتهك الثيمة الموسيقية.

تستوحي موسيقى "ثلاثي أين" ثيمات لحنية قديمة عبر استنطاقها ثيمات عصرية

عودةً إلى "حاجز"، يمنحنا التعدد الصوتي للخطوط اللحنية فيها، إحالة إلى التقاء الجوانية في الخارج من خلال صراع. وحتى لا يتمكن التأويل من استيلائه على الحالة اللحنية، فإن تلك الخطوط السردية لا تعطينا أكثر من تجليات مليئة بالعاطفة، بنت قصديتها على تصعيد الحالة الوجدانية. هكذا، ليصبح الصوت الواحد في "ترقُّب" استغراقًا في جوانية تثقلها المعاناة، مع حضور النقر الوتري وما يضفيه على المساحات النغمية.

اقرأ/ي أيضًا: توم وايتس.. سريالي فوق العادة‬

تستوحي موسيقى "ثلاثي أين" ثيمات لحنية قديمة عبر استنطاقها ثيمات عصرية؛ على أن الألحان تحاول أن تكون عملية سردية للموسيقى الشرقية وطابعها المركب من التقاء ثقافات، أو ما يمكن أن تنطلق منه أي ثقافة باعتبارها فضاءً يتسع لاستيعاب عناصر هجينة. لنقل إنها محاولة، تتطلب مغامرة أكثر في تطوير البنية اللحنية للموسيقى الشرقية.

يبرز القالب التركي المعروف في المقطوعة الثانية، "سماعي نهاوند"، المكون من مجموعة خانات، وتسليم يختم كل خانة؛ وهو نفس القالب الذي بني عليه أغنية "جبينك عالٍ"، لتتلوه في الترتيب ضمن قائمة "ثلاثي أين".

ينعكس شغف باسل بالراغا الهندية في "جبينك عالٍ"، بل إنه يهضم شغفه لينسج لنا لحنًا غير مألوف في الأغاني العربية. واحتواء الراغا لا يقتصر على توظيف خطوطها اللحنية مقاميًا ضمن أحد المقامات العربية الشرقية (الصبا)، خصوصًا في الخانة الثانية في تحولها اللحني، مع طغيان الحضور الفرعي الخالي من ربع الصوت.

اعتمد باسل زايد على التقشف الزخرفي مقارنة بألحان الراغا التقليدية، موظفًا خطوطه المتقطعة والمتذبذبة في درجات السلم الموسيقي في التراوح بين الصعود والهبوط. تشكّل الراغا ذائقة الطبقة الأرستقراطية التقليدية في الهند، كما أثرت خطوطها اللحنية، بصورة ما، على الموسيقي النمساوي شونبرغ في اتجاهه اللامقامي.

تمهّد المقطوعة الرابعة، "مدينة"، لحضور الحاجز، وثيمة الترقُّب. إلا أن هذا التسلسل السردي يختلف في مضامينه اللحنية؛ فالتوظيف المقامي للعجم في "مدينة" تشوبه تحولات كما لو أنه حيوات مختلفة تتلاقى؛ إذ يحضر التشيلو بصوته الغليظ في الجزء الثاني، متضمنًا منمنمات، أو ايحاءً ارتجاليًا، لينتهي بلحن فرائحي يبرز فيه صوت الكمان في عزف الفرقة الثلاثية. وفي الأخير، يعود صوت العود كما في البداية.

تتكون أغنية "عرفت الهوى" من شطرين، سواء في المضمون الشعري أو اللحني. وهي، على أية حال، تحيلنا إلى الانعطاف الأهم في الطريق من المعاناة حتى بلوغ نشوة الانصهار الكلي في الحب؛ أي مرحلة التجلي المعرفي.

يغني باسل زايد في القسم الأول قصيدة "عرفت الهوى" للشاعرة الصوفية رابعة العدوية، بلحن من مقام النهاوند مستوحى من الترانيم المسيحية. هل يرتبط الأمر ببعض السمات المشتركة بين التراث الصوفي والمسيحي؟ إنها قبل كل شيء تجليات موسيقية، ذات خارطة وجدانية إنسانية مشتركة.

تحضر قصيدة الحلاج في القسم الثاني؛ "عجبت منك ومنّي"، لكن العنصر اللحني ينتقل من الترانيم الكنسية الشرقية في الشام، إلى أسلوب الموال المستوحى من إرث الغناء والإنشاد الديني الإسلامي المرتبط بالأذان. فالحالة الصوفية لا علاقة لها بأي دروشة. وبعيدًا عن المغزى من دمج ثقافتين غنائيتين: مسيحية - إسلامية، تؤكد تلك اللغة المشتركة للموسيقى بصرف النظر عن خلفياتها الروحانية؛ وهي نفس اللغة المشتركة للمحبة؛ كما لو أنه صوت يتعارض مع واقع مليء بالاحتقان الطائفي والديني.

علينا قبل كل شيء قراءة مغامرة باسل زايد في "ثلاثي أين" كاجتهاد فني يعاكس التيار السائد في سوق الموسيقى العربية

عبر سلسلة سردية تبدأ انعطافتها الأخيرة بالتجلي المعرفي، يتشكّل المخاض النهائي لبلوغ نشوة التوحد أو الاندماج الكلي في المحبة. ففي مقطوعة "هام جدًّا"، يستمر الدمج بين عناصر موسيقية هي لحن ترنيمي وتقسيمات زخرفية تتسم بمزيج عربي وهندي.

اقرأ/ي أيضًا: وسام محمودي.. تأنيث الوتر الخامس لزرياب

قد تبدو الخاتمة، "فرح"، إعلان لانتصار ذلك المسعى؛ فمقام الحجاز مقام الصحراء بامتياز. هل هو تصوير لحالة من الزهد؟ هنا، الموسيقى لا تحيل لشيء خارج بنيتها اللحنية؛ على الأقل يحيلنا الأمر إلى التصور الشكلي لعمل "ثلاثي أين". فمن "عنف" إلى "فرح"؛ يتجلى الأمر بالجزء المبدع الذي تنشده الموسيقى. لكن علينا قبل كل شيء قراءة مغامرة باسل زايد في "ثلاثي أين" كاجتهاد فني يعاكس التيار السائد في سوق الموسيقى العربية؛ سوق ما زال بحاجة إلى الاجتهاد لتطوير البنية اللحنية للموسيقى العربية.

اقرأ/ي أيضًا:

هانز زيمر: في عالم الأحلام دائمًا

الحياة بوصفها "طنجرة ضغط"