31-مايو-2023
تونس

تراجع الثقة شعبيًا في الفاعلين السياسيين وانتشار موجة من الكراهية تجاه "الأجسام الوسيطة" (صورة توضيحية/Getty)

 

في تونس، تجاوزت نسبة البطالة 16 ٪؜ خلال الثلاثي الأول من سنة 2023 وفق إحصاءات المعهد الوطني للإحصاء (عمومي)، وتراجع احتياطي العملة الصعبة وفق أرقام البنك المركزي التونسي، وقدرت مؤسسات داخلية وأجنبية نسبة النمو بأن تكون في حدود 1 أو 2 %، إضافة إلى عديد المؤشرات الأخرى ذات اللون الأحمر.

ولتغطية عجز ميزانية هذا العام، حددت السلطات التونسية سابقًا ضرورة تعبئة موارد اقتراض بقيمة 24.1 مليار دينار متأتية بنسبة 66.2 % من الاقتراض الخارجي لكن قرض صندوق النقد الدولي "معلّق" مع اقتراب انتصاف السنة ولا بوادر لقروض ثنائية مهمة لتغطية هذه المصاريف.

في ظل الضبابية حول قرض صندوق النقد والفرضيات البديلة لتمويل ميزانية 2023، تغيب الحلول الملموسة في تونس ويٌطرح شعار "التعويل على النفس" أو حديث "الثروات الضخمة التي يستبطنها البلد"

قد يبدو بديهيًا، إثر قراءة هذه الأرقام وغيرها بخصوص الوضع الاقتصادي في تونس، أن تتجه الأذهان إلى كون البلد وحكامه في حرص شديد على تفعيل قرض الصندوق وما يُرافقه من شروط أو يٌجرون علنًا وسرًا محاولات لتعديل هذه الشروط أو حتى يعرضون مقترحات أو تصورات أو شراكات أخرى لتوفير الموارد، لكن لا يبدو الوضع كذلك، على الأقل علنًا.

فرأس السلطة التنفيذية في تونس حاليًا، الرئيس قيس سعيّد، والذي يمسك بصلاحيات شبه مطلقة وله الكلمة الفصل في مختلف القضايا والرهانات المطروحة تونسيًا، يُعلن صراحة رفضه ما أسماها "إملاءات صندوق النقد الدولي"، ولا عيب في ذلك رغم تأخر إعلان الموقف بعد أكثر من سنة أعلنت فيها حكومته، عن عمل دؤوب مع الصندوق بغاية التتويج بقرض 1,9 مليار دولار وكانت تصر أنها من قررت "برنامج الإصلاحات" كما أطلقت عليه.

لكن اللافت هو البديل المقدّم وهو: "التعويل على النفس وعلى قدراتنا".

كرّر الرئيس ذلك أكثر من مرة وفي أكثر من مداخلة دون تقديم أي تفاصيل أو أرقام. حتى الصلح الجزائي مع "الفاسدين" واسترجاع الأموال المنهوبة بالخارج وقد مثلا عماد حملة سعيّد في 2019 وفترته الرئاسية لاحقاً وقد شرّع لهما وخصص هيئة للعمل على الصلح الجزائي كانت مخرجات فترتها الأولى خاوية تمامًا، قبل أن يُمدد لها 6 أشهر أخرى.

ولا يبدو أن عموم الشعب في تونس متخوّف من الأرقام المذكورة سابقًا وأرقام أخرى، تتعالى أصوات المختصين الاقتصاديين للتحذير منها منذ فترة. هي حالة من التيه والتجاهل تجتاح البلد و"رفض لتقبل أي صوت معارض"، رفض للنقد والتحذير وإبداء التخوّف وحتى لطرح التساؤلات، من الداخل والخارج، وكيل للشتائم على منصات التواصل الاجتماعي لكل صوت مشكّك، وتشويه وتخوين وتوزيع لـ"صكوك الوطنية" وغير ذلك.

لا يبدو أن عموم الشعب في تونس متخوّف من أرقام الاقتصاد والمالية "الحمراء" وتجتاح البلد حالة رفض لأي صوت معارض وللنقد والتحذير وإبداء التخوّف وحتى لطرح التساؤلات وكيل للشتائم لكل صوت مشكّك، وتشويه وتخوين وتوزيع لـ"صكوك الوطنية"

يُقدّم الشارع التونسي بعض "الحلول" كما يراها، نلمحها على منصات التواصل متداولة بكثافة مرفقة بـ"قلوب الإعجاب"، وهي غالبًا تجسد معظم المؤامرات المتداولة بخصوص الشأن التونسي منذ انطلاق الثورة وحتى قبلها.

يُروّج بكثافة لأموال منهوبة ضخمة من الحاكمين قبل الثورة ومن الحاكمين إبانها وتتداول أرقام بـ"مليارات المليارات" (والتعبير مستعمل خاصة من قبل الرئيس)، لكنها عادة ما تبقى حبيسة مواقع التواصل لا غير.

كما تختص عديد الأصوات في الترويج للثروات الضخمة التي تزخر بها البلاد وهي "إما محل استغلال داخلي أو خارجي في إطار مؤامرة على البلد أو لم يُكشف عنها بعد"، وفي هذا السياق، تزدهر الإعلانات عن الاكتشافات النفطية والغازية في السوشيال ميديا تونسيًا، تدعمها تصريحات عديدة لسعيّد يقول فيها إن "تونس بلد غني يزخر بالثروات"، لكن لا شيء ملموس على أرض الواقع.

أكثر الروايات المروّجة بخصوص حلول الوضع تونسيًا هي التي تقوم على المؤامرات وتستند على وجود ثروات ضخمة تزخر بها البلاد لكن لا شيء ملموس على أرض الواقع بينما تلاقي هذه الروايات رواجًا واستحسانًا واسعًا

يُمكن أن تستمع بوضوح لكل هذه الأصوات على منصات التواصل وفي حديث المقاهي لكن يصعب أن تستمع لصوت عال معارض، خاصة مع تتالي المحاكمات مؤخرًا بناء على تدوينات على فيسبوك أو مقالات صحفية أو تصريحات إذاعية، في وقت لا يزال يصر فيه الرئيس أن "لا أحد حُوكم لرأي أو موقف في تونس".  

وحتى أزمة التزوّد بعديد المواد الأساسية والتي تُراوح مكانها منذ أشهر مع اختلاف اسم المنتج الذي يشهد اضطرابًا في التوفر أو قلة، يتعاطى معها عديد التونسيين، في السلطة أو في الشارع، وفق نظرية المؤامرة أي رواية الاحتكار فقط، وإن كانت قائمة في بعض الحالات، لكن المختصين وحتى عديد المسؤولين يقدمون أسبابًا أخرى يرونها أكثر أهمية وتأثيرًا ومنها صعوبات المالية العمومية وتوفير العملة الصعبة لتوريد عديد المنتجات.

عيش في الوهم ويبدو أن الزمن هو العامل الوحيد الذي قد يكون مؤثرًا في الوضع الراهن التونسي في ظل تراجع الثقة شعبيًا في الفاعلين السياسيين وانتشار موجة من الكراهية تجاه "الأجسام الوسيطة"

عيش في الوهم. ويبدو أن الزمن هو العامل الوحيد الذي قد يكون مؤثرًا في الوضع الراهن التونسي وفي التحكم في حالة "العيش في الوهم"، في ظل تراجع الثقة شعبيًا في الفاعلين السياسيين على اختلاف تياراتهم وانتشار موجة من الكراهية تجاه "الأجسام الوسيطة" من إعلام ومجتمع مدني وخبراء وباحثين وغيرهم.