22-يناير-2016

احتجاجات متصاعدة في تونس(ياسين القايدي/الأناضول)

تتسع رقعة الاحتجاجات في تونس، لتشمل غالبية محافظات البلاد والعاصمة، في أكثر الاحتجاجات الشعبية امتدادًا منذ ثورة الحرية والكرامة والتي اُحتفل بذكراها الخامسة قبل أيام قليلة. وتأتي هذه الاحتجاجات مطالبة بالتشغيل والتنمية خاصة في المحافظات الداخلية المهمّشة، والتي أقرّ الدستور مبدأ التمييز الإيجابي لصالحها، غير أن محدودية واقع التنمية والتشغيل، فجرت احتجاجات أعادت للسطح نفس الشعارات التي تم رفعها إبان الثورة، موازاة مع تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي في البلاد، وذلك في تحدّي جدّي لسلطة تعيش أزمة بذاتها.

القصرين تنتفض والاحتجاجات تتوسّع

تتسع رقعة الاحتجاجات في تونس، لتشمل غالبية محافظات البلاد والعاصمة، في أكثر الاحتجاجات الشعبية امتدادًا منذ ثورة الحرية والكرامة

بدأت الاحتجاجات في محافظة القصرين، إحدى عواصم الثورة إبان الحراك الثوري سنة 2010، إثر كشف تلاعب المعتمد الأول، نائب المحافظ، بقوائم الانتدابات الوظيفية وهو ما ولّد حالة سخط وغضب بالتظاهر أمام مقرّ المحافظة. وقد تصاعدت حالة الاحتقان إثر وفاة أحد المحتجّين بعد سقوطه من عمود كهربائي أثناء احتجاجه. ومع تزايد توسّع الاحتجاجات في المحافظة وحدوث مواجهات بين المحتجين وقوات الأمن، أعلنت وزارة الداخلية فرض حالة الطوارئ في المساء وهو ما لم يمنع تزايد حدّة هذه الاحتجاجات وتوسّعها لمدن أخرى.

حيث تواصلت رقعة الاحتجاجات في التمدّد، طيلة الأيام الماضية، لتشمل غالبية محافظات البلاد على غرار محافظة سيدي بوزيد، مهد الثورة، والقيروان وقفصة وجندوبة وصفاقس ومدنين. وتزايدت حالة السخط والاحتقان لتصل للعاصمة بعد اقتحام عشرات المحتجّين لمقرّ المحافظة. كما طرد المحتجّون المسؤولين الجهويين والمحليين من مكاتبهم بعدد من المدن. وترافقت الاحتجاجات بأعمال شغب خاصة في ضواحي العاصمة. ورفع المحتجّون شعارات سبق ورُفعت إبان الحراك الثوري أهمها "التشغيل استحقاق".

وفي حديثه لـ"الترا صوت" حول أسباب الاحتجاجات الجارية، يقول الدكتور محمد الحاج سالم، وهو باحث في علم الاجتماع، إنها "هيكليّة تتعلّق بفشل الدولة في القيام بدورها التنموي والحال أنّها طرحت هذه المهمّة على نفسها منذ بدايات الاستقلال".

وتجيء هذه الاحتجاجات في ظلّ تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي، حيث لم يحقق الاقتصاد التونسي نسبة نموّ تتجاوز الواحد في المئة، متأثرًا بانهيار القطاع السياحي إثر العمليتيْن الارهابيتيْن في باردو وسوسة. كما ارتفعت نسبة البطالة لتصل في الثلاثي الثالث لسنة 2015 إلى 15.3 في المئة أي ما يعادل 612 ألف باحث عن الشغل.

حكومة الأزمة في مأزق

تأتي هذه الاحتجاجات في ظلّ تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي خاصة بعد انهيار القطاع السياحي إثر العمليتيْن الارهابيتيْن في باردو وسوسة

مع تحقيقها أضعف نسبة نمو اقتصادي منذ اندلاع الثورة، تعيش حكومة الحبيب الصّيد حالة من التخبّط واللاستقرار منذ أشهر، على ضوء التجاذبات الحادّة في حزب نداء تونس الحاكم، ولم ينفع التحوير الوزاري قبل أسبوعين في رأب الصّدع، بل يرى عديد المراقبين، أن هذا التحوير صعّد شخصيات أكثر جدلية وأقلّ كفاءة. ففي نفس الإطار، سبق وقدّم وزير الشؤون الاجتماعية محمود بن رمضان قبل أيام استقالته من الحكومة قبل رفضها.

وبذلك، فما إن بدأت الحكومة الجديدة توظّب نفسها بعد تحوير وزاري مثير للجدل، خاصة بعد تعيين وزير الخارجية، الذي سبق وترأس مكتب علاقات تونس في الكيان الصهيوني في زمن نظام بن علي، حتى جاءت التحرّكات الاحتجاجية من القصرين، إحدى عواصم الثورة، لتضع حكومة تعيش أزمة في مأزق جديد.

مع بداية أولى الاحتجاجات، قام رئيس الحكومة بعزل المعتمد الأول لمحافظة القصرين الذي يتّهمه المحتجّون بتورّطه في تلاعب بقائمات المنتدبين، وتم فتح تحقيق للغرض بحسب بيان مقتضب تم نشره في موقع رئاسة الحكومة. ثمّ وفي برنامج تلفزيوني، خرج الناطق الرسمي باسم الحكومة خالد شوكات ليقول إن "الحكومة لا تملك عصا سحرية". وفي اليوم الموالي ومع تواصل الاحتجاجات وتمدّدها، عقدت الحكومة اجتماعًا مشتركًا مع عدد من ممثّلي المحافظة في البرلمان، وترأس الاجتماع وزير المالية بعد سفر رئيس الحكومة لحضور فعاليات منتدى دافوس.

وأعلنت الحكومة إثر الاجتماعات اتخاذ جملة من القرارات أهمها تشغيل 5000 معطّل عن العمل من محافظة القصرين، ودعم 500 مشروع صغير مموّل من بنك حكومي بتكلفة 3 مليون دولار تقريبًا، وتحويل الأراضي الاشتراكية لأراضي خاصّة، وقرارات أخرى ذات علاقة بمكافحة الفساد وتطوير القطاع الصحّي. من جهته، اكتفى رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي بالتأكيد على الحقّ في التظاهر في مؤتمر صحفي مشترك مع الرئيس النمساوي.

وبعد يوم واحد، ذكر وزير المالية أن الناطق باسم الحكومة ارتكب خطأ اتصاليًا وأن الرقم المذكور لعدد الانتدابات يتعلّق بالمنتفعين بآليات الانتدابات وأنه لا يوجد أي انتداب جديد في إطار الوظيفة العمومية. ويعكس هذا الخطأ هشاشة التواصل الحكومي والتنسيق بين الوزراء، وهو ما زاد في التشكيك في قدرة الحكومة على مواجهة هذه الاحتجاجات واتخاذ القرارات اللازمة، وفق مراقبين.

كما يُطرح أمام السلطة التونسية الحالية السؤال حول مدى جديتها في مكافحة الفساد وتكريس الشفافية، خاصة في ظلّ تعيين وزراء تعلّقت بهم شبهات فساد مالي أو تم تعيينهم لقرابتهم من رئيس الجمهورية، موازاة مع تعيين مسؤولين محليين انتموا سابقًا لحزب التجمّع المنحلّ. وفي ذلك يشير الدكتور الحاج سالم مجدّدًا إلى "وجود أزمة تسيير حكومي بفعل التوافق الحزبي المغشوش"، في إشارة إلى الرباعي الحاكم والذي يقوده حزبا نداء تونس وحركة النهضة.

أزمة آفاقها مجهولة

يطرح أمام السلطة التونسية الحالية السؤال حول مدى جديتها في مكافحة الفساد وتكريس الشفافية، خاصة في ظلّ تعيين وزراء تعلّقت بهم شبهات فساد مالي

في السؤال حول طبيعة التطورات الجارية، بين ثورة ثانية قد تنسف مسار العملية السياسية في تونس أم احتجاجات شعبية حول مطالب اجتماعية لن تبلغ بالنهاية إلى مراجعة لهذا المسار؟ تختلف الإجابة في التقدير بين المراقبين. ويشير الحاج سالم، في هذا الجانب، إلى "أن الحاصل هو ذات الحراك الذي عرفته البلاد منذ 2008، وقد تُوّج في 2011 بتغيير سياسي، لكنّه لا يزال متواصلاً من أجل إحداث التغيير الاجتماعي الاقتصادي المطلوب".

وفي نفس السياق، دعى عدد من أحزاب المعارضة لاتخاذ قرارات جريئة في اتجاه حلول ناجعة للمطالب الاجتماعية في المناطق المهمّشة، مع دعوات بعقد مؤتمر وطني للتشغيل، يحدد استراتيجية وطنية واضحة لمعالجة هذا الملفّ الذي تصدّر الشعارات في الحراك الثوري الذي أسقط بن علي. وفي هذا الإطار، يدعو الحاج سالم إلى أن "يتّفق الجميع على خطوط عريضة لمشروع وطني جامع تتوّلاه حكومة سياسيّة يكون في سلّم أولويّاتها إطلاق مشاريع كبرى لامتصاص البطالة وإلزام أصحاب الأموال بالمشاركة في التمويل، ويمكن في مرحلة ثانية بيع المشاريع الرابحة".

كما طالبت المعارضة بالتسريع في تنظيم الانتخابات البلدية في خريف السنة الجارية، وسط مخاوف أوليّة حولها خاصة مع تعيين صهر رئيس الجمهورية ورئيس لجنة حلّ الخلافات بالحزب الحاكم، وزيرًا مكلفًا بالشؤون المحليّة والجهوية في التحوير الوزاري الأخير.

وبذلك موازاة مع تواصل أزمة الحزب الحاكم، ومواصلة غياب رئيس الحكومة عن البلاد رغم قراره تقصير زيارته الخارجية، وفي ظلّ أزمة عدم نجاعة الحكومة في التفاعل مع المطالب الاجتماعية مضاف إليها أزمة تواصل تعيشها، يؤكد مراقبون أن الصورة لا تزال ضبابية في المشهد التونسي.

اقرأ/ي أيضًا:

احتجاجات القصرين.. هي انتفاضة المُعَطلين إذًا

القصرين.. جرح الثورة الغائر