01-سبتمبر-2016

مليكا زلدس/ أمريكا

"أنت تعلم أنّك قد قرأت كتابًا رائعًا، عندما تقلب الصفحة الأخيرة وتشعر كأنّك تودع صديقا عزيزًا"
 * بول سويني

 

الفقد؛ تلك الهوة التي تبتلعك من الدّاخل لتجد نفسك متخبِّطًا في فضاءٍ لا متناهٍ من العدم، هو الشّعور الذي يهوي بقلبك حين تغفل عن تلك الخطوة في الظّلام، ما ينتابك حين تقفل دفّتي كتاب رافقته مدةً من الزّمن، إلا أنه يترك فيك من الأثر عمرًا. إن الشّعور بالفقد يتنامى ليغدو ضياعًا، حين تكون الرواية ذات نهاية مفتوحة من الكاتب عن سبق إصرار وتعمد، لا تروي غليل حبكةٍ بدأت تكبر في دواخلنا ثم انقطعت، إن كلمة "النهاية" أو "تمت" تبقينا مشرعين على بداية لسنا على قدرها بعد، لكن أحيانًا تأتي النهايات بغفلة عن الكاتب ذاته، فيتم قدره كاملًا، تاركًا شخصياته على الورق تتخبّط، محاصرين بحيرةٍ بيضاء، وكأنّهم باتوا عبئًا على قدر الأدب، مخلفًا الحياة التي خلقها دون نص واضح غير منتهٍ. ضبابيّة الخطوة، وفاجعة الحيرة، والانتصاف قد تنأى بقارئ عن قراءة العمل بعد أن أدرك الموت كاتبه قبل أن يتمه، فتركه يتيمًا مراهنًا على أن الغد بين يديه، فما بذل عناء سباق العمر مع كتابه.

اقرأ/ أيضًا: جان دوست.. نسّاج الحكايا وموثّق الألم

يزخر الفن بشكل عام والأدب خاصة بالنصوص غير المنتهية، والتي تركها مؤلفوها بين يدي الورثة أو دور النشر، لتغدو إما تكريمًا لذكرى عبورهم في قلوب جماهيرهم، أو مصدرًا يدر الرّبح لمن كانوا يقتاتون من الإبداع، ومخاوف، وشياطين إلهام الكتابة. فإمّا أن يلقى العمل مصيره إلى الطباعة على حاله، منتهٍ عند النقطة التي تركها الكاتب حيث وضع القلم على آخر سطر، وإمّا أن ينهيها كاتب آخر من منظوره الخاص لكن فيما يصب في النسق الأدبي لصاحب العمل، أو أن يمتلك الكاتب مسودات أخرى أهملها الكاتب ليبدأ من جديد، فيستقوا منهم النهاية الأمثل.

الفقد هو تلك الهوة التي تبتلعك من الدّاخل لتجد نفسك متخبِّطًا في فضاءٍ لا متناهٍ من العدم

كرواية مارك توين صاحب رواية "مغامرات توم سوير" عندما كتب روايته الأخيرة "الغريب الغامض"، التي كتبها بثلاث نسخ على مدى 20 عامًا، ولم تكن أي منها كاملة، إلى أن قام كاتب السيرة الذاتية لتوين، ألبرت باين بدمج الثلاث برواية واحدة ثم قام بنشرها بعد وفاة توين بست سنوات.

وتشارلز دكينز، الذي توفي إثر جلطة دماغية عن عمر ثمانية وخمسين عامًا تاركًا خلفه أحجية بالعديد من القطع التي تساعد في حلها، فظل للقارئ أن يعمل خياله ليرأب ذلك الفراغ، تلك الأحجية المعنونة بـ"لغز إدوين درود" والتي لم ينته من كتابة إجابتها فبقيت بلا حل. هذا اللغز كان من المقرر أن ينشر بسلسلة من 12 جزءًا، لكن لم يتم منها ديكنز سوى 6 أجزاءٍ قبل وفاته. 

وتتحدث الرواية عن الاختفاء المفاجئ للسيد درود ليلة الكريسماس أثناء عاصفة، وعدد من الشّخصيات التي تدور حولها الشّبهات، كخطيبته روزا وخاله جون جاسبر المغرم بروزا، والسيد نيفيل لاندلس. ما إن تتصفح التّعليقات على الرّواية في موقع Goodreads.com حتى تدرك أن التعليقات كافة، تأتي محبطة فجميعهم يؤيد استحالة معرفة المجرم رغم العدد الكبير من الأدلة، إلا أنهم لن يكونوا على يقين أن الحل الذي توصلوا له هو ما كان يجول في خاطر ديكينز، وتأتي الدّوافع لقراءة الرواية مختلفة؛ أحد القراء أراد التعرف على جميع أعمال ديكنز فقرر البدء بأقصرها -التي لم تنته- وآخر أنهى أعماله الروائية الأخرى كاملة وكان لابد من قراءة عمله الأخير، وآخرون كانوا يشعرون بالتحدي لحل لغز الجريمة. 

اقرأ/ أيضًا: "مونتي".. القصة الكاملة لـ"سمسار" حسني مبارك

فرانس كافكا، قد يعد من أكثر الكتاب والروائيين الذين طبعت أغلب أعمالهم بعد وفاتهم، إذ قام صديقه ماكس برود بنشر أعماله محققًا له شهرة واسعة عكس وصيته التي طلب فيها حرق كل ما كتب. بعد وفاته عثر صديقه ماكس برود الذي أوصى كافكا بملكيّته لأعماله، على قصاصة كتبها كافكا، في ساعة يأس ومعاناة من مرض السل، يرجوه فيها "رجاء أخيرًا" بأن يحرق كافة مخطوطاته غير المنشورة ومنها رواياته الثلاث: "أمريكا، المحاكمة، تحضيرات عرس في الريف". إلا أنه من حسن حظ القراء أن أعمالًا عبقريّة كهذه لم تشبع نهم النيران دون القراء، هذا وقد تكفل برود بكتابة النهايات لبعض روايات كافكا كرواية المحاكمة. مؤخرًا؛ تم الحكم في شهر آب/أغسطس من هذه السنة 2016 بأن تؤول ملكية مسودات أعمال فرانز كافكا للمكتبة الوطنية الإسرائيلية، بعد رفض طلب الالتماس من ورثة برود، والذي لم يحترم وصية كافكا بإحراق أعماله بل أخذهم معه عند هروبه من غزو النازيين لشيكوسلفاكيا والتي نزح على إثرها إلى فلسطين. 

بعد وفاته عام 1968 سلمت المسودات لسكريترة برود، إيستر هوف، لتقوم بتسليمها لجامعة القدس العبيرية، المكتبة البلدية في تل أبيب، أو أي مؤسسة إسرائيلية. لكنها هي أيضًا لم تلتزم بالوصية، إذ قامت ببيع مسودة المحاكمة بمبلغ يقدر بمليوني دولار، وقامت بتوزيع البقية على ابنتيها بعد وفاتها في 2007، مما أضاف أطرافًا جديدة على النزاع بين الورثة على مبالغ طائلة. 

"الألفيّة" ثلاثية مكونة من ثلاث روايات هي: الفتاة ذات وشم التنين، والفتاة التي ركلت عش الزنابير، وانتهي بالفتاة التي لعبت بالنار، من تأليف الكاتب ستيج لارسون والذي توفي إثر أزمة قلبية أصابته إثر صعوده على درج مكتبه بعد تعطل المصعد عن عمر يناهز الخمسين عامًا، وبعد حرب ضارية بين ورثة الكاتب -والده إرلند وأخيه جواكيم- ضد حبيبته لمدة 32 عامًا، لأن لارسون لم يتزوجها أبدًا، لأنه كان عليه الإعلان عن عنوانهما عند الزواج بموجب القانون السويدي، وذاك كان يمكن أن يشكل خطرًا على حياته، والتي قانونيًا لا تمتلك أي حق بأعماله، إلا أنها كانت تحارب بأحقيتها باسم وصية تركت للكاتب تنص على تركه كافة ممتلكاته لأوميا (فرع رابطة العمال الشيوعية)، إلا أنها بسبب عدم توثيقها من شهود لم تعتبر وثيقة قانونية.

تغدو الحميمية والحب طابعًا أساسيًّا لاستكمال طباعة عمل غير مكتمل بعد وفاة الكاتب

رغم أن أغلب الخلافات على الحقوق الفكرية للأعمال الأدبية تأتي بهدف المكاسب المادية، إلا أن هدف حبيبته؛ إيفا جابرلسن لم يكن أبدًا ماديًا، بحسب ادعائها. لكن نقطة خلافها مع الورثة كانت من يمتلك المعرفة، الفطنة والنزاهة لإدارة ممتلكاته لا سيما، شخصياته والحبكة والرسائل والآراء السياسية التي اعتاد على تمريرها في أعماله. هذا الخلاف الذي احتدم بعد قيام والد لارسون وأخيه مؤخرًا باستكمال جزء رابع من السلسلة، من خلال التعاون مع الكاتب لاجركرانتز (الذي اشتهر من خلال الاشتراك فى كتابة السيرة الذاتية للاعب الكرة السويدي زلاتان إبراهيموفيتش)، لكتابة الرواية كاملة، لكن باستخدام الشخصيات والأسلوب ذاته وحبكة مشابهة لما قد يكتبه لارسون. رغم امتلاك إيفا جابرلسن لمخطوط كتاب رابع غير منته مكتوب من قبل لارسون ذاته، والذي صرحت أنها بإمكانها الانتهاء منه بنفسها لولا الخلافات القضائية القائمة. 

اقرأ/ أيضًا: جولان حاجي.. بنات الثورة السورية

هنا يغدو السؤال، هل حقًا كان القارئ بحاجة إلى الجزء الرابع من السلسلة، أم كانت دافعًا من دار النشر والورثة لتحقيق مكاسب مادية، السلسلة الثلاثية وإن نشرت بعد وفاته إلا أنها تبقى من نتاج الكاتب ذاته، وتعتبر كنوع من الإرث الثقافي للكاتب، وتخليدًا لذكراه التي يسعى لها الإنسان بطبيعته ليغدو عصيًا على النّسيان. 

لكن العامل الأساسي لشراء القراء للنسخ ونفادها عن أرفف المكتبات، كان الفضول؛ الفضول لمعرفة كيف ستستمر المغامرة بقلم جديد، هل هنالك فرق في المستوى الإبداعي للكاتبين والذي كان واضحا ومخيبًا للآمال، مع العلم أن الكاتب صرح من قبل أنها ستكون سلسلة من سبعة أجزاء، لكن القدر لم يمهله.

أما على صعيد الكتّاب العرب، فتغدو الحميمية والحب طابعًا أساسيًّا لاستكمال طباعة عمل غير مكتمل بعد وفاة الكاتب، حيث يغدو هذا الأمر تكريمًا لذكرى الأحبة، وعطفًا على معجبين لم يستعدوا بعد لرحيل الكاتب، والوداع يأتي بصفحات لا تغدق على القارئ بالقوة التي ينشد؛ أو على الأقل هذا ما ينطبق على "الصرخة" للروائية رضوى عاشور، والذي بدأت بكتابته في عام 2013 ولم يسعفها الوقت والمرض لتكمله، والذي يأتي كجزء ثاني من مذكراتها "أثقل من رضوى" والذي تروي فيه معاناتها مع المرض ومعتذرة من قرّائها من حجم الألم المطرز على الورق قائلة: "عليَّ أن أعترف بالذنب لإشراكك في كل هذه التفاصيل... لكن كيف أكفِّر عن ذنبي؟"، بالإضافة إلى معاناتها تتطرق رضوى للوضع السياسي في مصر أثناء الثورة، وأحداث ميدان التحرير.

مريد البرغوثي صرخ في لقاء صحفي: "لم تتمكن من إكماله، تركناه كما هو، وهي التي اختارت عنوانه واختارت أيضًا لوحة الغلاف المسماة الصرخة للفنان النرويجي إدفارد مونتش". وفاءً لأنامل مرت على وجع كُتب نصًا، ترك آخر أنفاسه مدادًا، قام مريد وتميم بنشر ونقل الصّفحات دون أي تعديل أو حذف أو إضافة، ذلك الوفاء الذي تلقاه القراء بمزيد من الحب والتّعاطف.

باتت دور النشر الكبيرة تضع في عقد النشر مدة احتكارها التي تبلغ حتى سبعين عامًا، لتتخلص من مشكلة تحكم الورثة

إن كانت الدّوافع للورثة أو القارئ هي كما ذكر سابقًا، يغدو السؤال؛ هل لدور النشر والطباعة أي دوافع أخرى عدا الربح المادي؟ وهل الكتاب ذو النّهاية المبتورة يختلف بحجم مبيعاته سلبًا أو إيجابًا عن نظيره المختوم بكلمة "تمت"، وهل يتباين طبقًا للكاتب أو العمل بحد ذاته؟ 

اقرأ/ أيضًا: عزمي بشارة.. خرائط الحرية

عند سؤال عدد من دور النشر عن الدافع الحقيقي لطباعة ونشر كتب كهذه، جاءت الأجوبة متماثلة في المجمل والهدف هو الكسب المادي وتحقيق الأرباح، إذ يبدو سواء كان الكتاب تامًا أم لا، فإن مبيعاته لا تتأثر، إذ حقيقة أن الكتاب غير مكتمل لا تعد عاملًا في نفاده من أرفف المكتبات، بل اسم المؤلف هو ما يصنع الفرق، فإن كان من الكتاب المعروفين والمفضلين لدى الشريحة القارئة فهو ما يؤثر إيجابًا، بل وبات لدى دور النشر الذكاء التجاري الكافي لاستكمال الروايات غير المنتهية بطريقة أو بأخرى تضمن من خلالها استمرار المبيعات، وأن النهايات المماثلة قد لا يلحظ الفرق في الأسلوب بين الأصل وعدمه إلى قلة من القراء المتمرسين. 

اليوم باتت دور النشر الكبيرة مثل "دار بلومزبري" في لندن تضع بعقد النشر مدة احتكارها التي تبلغ حتى سبعين عامًا، وهي بذلك تتخلص من مشكلة تحكم الورثة، فبعد انقضاء ذلك الوقت على وفاة الكاتب يتحول موروثه الأدبي لمشاع أدبيّ.

لا بد أن تكون ذاكرتنا بكامل أناقتها عندما نزف كتابًا إلى مثواه الأخير، كثرٌ من عاقبونا بالنّهايات المفتوحة... إلا الكتاب يحضر متى أردت ويغادرك بإرادتك، لذا لا بد أن نتأنّق عندما نصل إلى صفحة النهاية. 

 

 

اقرأ/ أيضًا:

المركز العربي يقارب الذكرى المئوية للحرب العالمية

نكبة المكتبات الفلسطينية