03-أغسطس-2015

تمام هنيدي/ سوريا

استوكهولم: بعد "وشوم الضباب" التي صدرت العام الماضي، يعود الشاعر السوري تمام هنيدي ليصدر مجموعةً جديدة بعنوان "كما لو أني نجوت"، عن "منشورات المتوسط" التي كتبت على موقعتها الإلكتروني تقول: "يحاولُ هنيدي في مجموعته الشعرية الجديدة إيجاد صيغة جديدة للتآلف مع الماضي كما لو أنه حالة صمّاء لا يمكن تغييرُها، فيفتح الباب على ذاكرته لمواجهتها والانتقال منها نحو "الآن".

هل يمكن لسنواتِ الثورة السورية الأربع أن تختصر ذاكرة حيواتنا كلّها؟

وفي تشكّكٍ يشي به العنوان، يكتب نصوصًا لا تنتمي إلى الثورة السورية أو إلى زمانها الزاخر بالانفجارات وحسب، بل تستفيد من فعل الشجاعةِ الذي تنطوي عليه هذه الثورة، لتعلنَ الرفض حينًا والحزن حينًا آخر. تبدو نصوص المجموعة محاولة استشفاءٍ شعرية من الآثار التي تركتها البلاد الموبوءة بالموت الرّخيص على جسد الشاعر".

يعرض الشاعر هواجس مجموعته، ويقول لـ"ألترا صوت": "السؤال الأصعب الذي أطرحه على نفسي، وعلى القارئ، وعلى السوريّ بشكل محدد، من بداية هذه المجموعة: هل نجوتُ حقًا؟ هل نجونا؟". 

ثم يضيف: "استلزم أمرُ التفكير بالنجاة، التفكير بمعنى الحياة أصلًا! إذ هل يمكن تعريفها، أي الحياة، بأنّها التنفّس وقيام أعضاء الجسم بوظائفها بانتظام؟ النجاة أيضًا نسبية، وفي هذه المجموعة أحاولُ وضع هذه الجملة تحت الضوء. نعم لا قذائف تحاصرنا الآن، لا موتَ محيط، لا سيوف ولا فصد رؤوسٍ عن أجساد، وبيوتُنا التي نسكنُها الآن، ليست مهددةً بالدمار. لكن ماذا عن البيوتِ التي تسكننا؟ ماذا عن ذاكرتِنا؟ ثمّ هل يمكن لسنواتِ الثورة السورية الأربع أن تختصر ذاكرة حيواتنا كلّها؟!".

يحاول الشاعر في مجموعته تسليط الضوء على الذاكرة الشخصية تجاه البشر والأماكن، على أمل الاستشفاء، والأمر كما يراه: "أعتقدُ، أننا نملكُ ذاكرةً شخصية أقدم من تلك التي تشكّلت خلال الحدث السوريّ، واستحضارُها هنا يبدو واجبًا لأكثر من سبب، الأول هو أنّه يتحتّم علينا لبدء حياة جديدة، أن نستشفي من ذاكرتنا القديمة. وقد تكون الكتابة هنا إحدى وسائل هذا الاستشفاء. أما الثاني، فلأنّ عدم اكتفائنا بالكتابة عن ذاكرة الثورة السورية، هو في معنىً ما توثيق لما كان يدورُ في بلادنا ما قبل الثورة، بلادُنا التي من المرجّح ألا تكون نفسها عندما نعود إليها، إن حدث ذلك".

يُذكر أن هنيدي شاعر وكاتب سوري مقيم في السويد، من مواليد السويداء في الجنوب السوريّ، يكتب في الشعر والسرد، ونشرت بعض نصوصه في عدد من الدوريات العربية.


موتهم كان يشبهُ حياةَ الآخرين

في الحديقةِ رجلٌ نائمٌ
أخفضي الصوت يا طيورُ
كوني أهدأ يا ريحُ
الزم بيوتكَ يا نملُ.
في الحديقةِ،
حيثُ لا جدرانَ تُسقطها القذائفُ، ولا سقوف...
رجلٌ نائمٌ!
/

ظلٌّ يُشبهُ شجرةً، دُفِنَ فيهِ رجلٌ وظلّهُ الصغير..
*

أعطني يدك، أصابعي لم تعد تكفي لعدّ ما يجب..
*

كان لديهم ألفُ سببٍ ليكرهوا بلادَهم، تلكَ التي ماتوا دفاعاً عن حبّها..
*

كانوا استثنائيّينَ جداً
حتّى أنّ موتهم كان يشبهُ حياةَ الآخرين!
*

سنونٌ طويلةٌ مرّت، وهم يفكرونَ في محاجرِ العيونِ التي تنظرُ إليهم، ما الذي يخفيهِ الطرفُ الآخرُ للبؤبؤ؟!
/
العيونُ في أماكِنِها، الآذانُ والأنوفُ والأفواهُ الفاغرة
كلّ شيءٍ في مكانِهِ على الرأسِ المقطوع
لكي يتلمّسَ موتَهُ بكلّ حواسّه.
/
كلما كبُرَ عدد القادمين
تعدّدت أسبابُ رجوعِهم
...
الموتى..
*

ما الذي يتحرّكُ؟
قدمايَ أم هذه الأرض؟.
*

لطالما ظننتُ أنّني جئتُ من مكانٍ صغيرٍ
لكنّني الآنَ أصرخ: ما أضيقكِ يا أرضَ الله الواسعة!.
*

كنتُ حصىً نهريّةً، يأخذُني الماءُ
وعلى اليابسةِ لا أخلفُ ألماً على أقدامِ العابرين.
/
وحيداً أسيرُ
وعلى الضفةِ الأخرى ماءٌ لم أذقهُ بعد..
*

لا أريدُ حذاءً جديداً
أريدُ قدمينِ فقط
لأسيرَ كلَّ هذهِ المسافة.
/
منذُ وقتٍ طويلٍ
وأنا أبحثُ في الأرضِ عن آثارِ خطواتِهم
وأضلُّ الطريق.
/
كانَ الطريقُ طويلاً وشاقاً
لم تدْفعني للمسيرِ نهايتُهُ
دفَعَني سأمُ الوقوف.
/
لا أريدُ حذاءً جديداً
أريدُ قدمين جديدتين لأغادرَ ذاكرتي..
*

أنا من قريةٍ صغيرةٍ
لم يعرف أهلُها أنّ كلّ امرأةٍ مدينة.
/
ولدتُ في الصالون
ضيوفٌ كثيرونَ
ولا أجدُ متّسعاً للصمت.
/
ولدتُ على يدِ قابلة
مُذّاك أعرفُ أنهُ يُمكِنُ ليدٍ انتشالُك
غير يدِ أمِّك.
/
على كتفِ بركةِ قريتنا
حيثُ النّسوةُ يجتمعنَ مع الدلاءِ والأواني، ينتظرنَ الرعاة، كنتُ أُمسِكُ ثوبَ جدّتي، خوفاً من الخراف، الخراف التي أكلتُ لحمَها عندما كبُرْت.
/
كنتُ في التاسعةِ من عمري
عندما علّموني أن أديرَ خدّي الأيسر
مرّ وقتٌ طويلٌ، حتى تعلّمتُ أن أخفي وجهي، تفادياً للصفعات.
/
كنتُ طفلاً
أرى اللهَ في كسرةِ الخبزِ على الأرض
حملتُ الكسرة إلى حافةِ الشرفة، ونسيتُ أن آكلها
ما زلتُ جائعاً إلى الآنَ يا الله..
*

أضمُّ صوتي لأصواتِهم
غزلانُ الغابات، الأيائلُ، عصافير الدوريّ
والأناسُ الطيّبونَ
الكائناتُ الهاربةُ من فوَّهاتِ البنادق..
*

لا أريدُ الكلامَ عن المجزرة
الكلامُ قديمٌ والمجزرةُ لا تنتهي
أتساءل فقط:
(ما الذي حلَّ بعرائسِ الزعتر في أيدي أولئكَ الأطفال)؟.
*

لا أعرفُ متى مشيتُ
لا أعرفُ متى لفظتُ الأحرفَ الأولى
من اختارَ اسمي
لا أعرفُ الكثيرَ
عن ذاكَ الذي كبُرَ حتّى صرتُهُ..