25-نوفمبر-2015

وضاح مهدي/ العراق

صباح العيد، كانت التكبيرات تنطلق من مكبرات الصوت في المدينة التي تعيش حربًا لا هوادة فيها، خرج المقاول التسعيني لشراء احتياجاته من السوق القريب، أخذ اللحم من عند الجزار وعاد إلى منزله، كان يتهيأ لإعداد الغداء له ولزوجته المصابة بالزهايمر التي لا تأكل إلا من طبخه.. ربما ﻷنها تتوهم أن هناك من يريد تسميمها. نسي الشيخ شراء الليمون، فخرج من فوره إلى السوق، هناك وعلى قارعة الطريق لفحته قذيفة هاون وإلى جواره اثني عشر شخصًا آخرين، بينهم خمسة أطفال كانوا في الشارع.

حزنت جدتي كثيرًا، ليس فقط على قريبها التسعيني الذي قتل فيما كان ينتوي إجراء عملية لركبته اليمنى، بل على زوجته -التي قلما تعي- أن تعي أن زوجها المخلص مات بطريقة بشعة كهذه.
*

أذهب لشراء السمك من المحل المجاور فأجده مغلقًا، بعد أيام وجدت المحل مفتوحًا ولكن البائع شخص أراه ﻷول مرة، سألته: أين البائع الذي كان هنا؟ رد بتلقائية وهو يزن قطع السمك لزبون آخر: قتل قبل ثلاثة أيام.. تعجبت، أضاف: كان عائدًا إلى منزله في وادي القاضي، وبينما كان يدق الباب أطلق قناص النار عليه فأرداه قتيلًا على باب منزله.

أخذتني حسرة رهيبة على البائع الذي كان يصر على تقطيع أوصال السمك قددًا صغيرة "كي تتبارك، وتقنع اﻷطفال"، سألت: ماذا عن أسرته.. هل تعرفهم؟ رد: هو ابن عمي.. ولديه سبعة أطفال صغار، لذلك لملمنا أنفسنا سريعًا وأتيت لفتح الدكان، نريد أن نعيش.
*

قرب السوق، مجموعة من اﻷطفال يتفحصون رشاشًا آليًا يحمله طفل من فئة المهمشين، أثناء استعراض الطفل المهمش للسلاح، سقطت البندقية من يده وخرجت منها رصاصة أردت أحد اﻷطفال.

في الليل: استيقظت أسرة الطفل المهمش من النوم على حريق "العشة" التي يقيمون فيها، ثمة مجهول قام بصب البنزين وإضرام النار لإحراق الجميع؛ باستثناء إصابة شقيقة الطفل المهمش بحروق متوسطة، لم يصب أحد بأذى، غير أن أسرته شردت ولم يعد لها مقام هنا.
*

ارتدى ماهر ملابسه المفضلة، وطلب من والده أن يصحبه لصلاة الجمعة، أقنع اﻷب طفله ذا السنوات السبع بالبقاء بحجة القصف، ووعده باصطحابه في اﻷسبوع القادم. بعيد الغداء سمحت اﻷم الشابة لطفلها بالذهاب للعب مع ابن خالته، شاهد اﻷطفال رجلين يتلاحقان أحدهما يوجه بندقيته تجاه اﻵخر.. هرب الطفلان واختبآ واحدًا خلف اﻵخر، عند المنعطف أطلق أحد الرجلين النار، فقضمت الرصاصة أربعة أصابع ﻷحد الطفلين، هرع فزعًا إلى المشفى القريب لتضميد يده.. غير أن ماهر استلقى على اﻷرض بلا حراك، مغتسلًا بالدماء.
ﻷيام؛ ظل والد ماهر ساهمًا قرب النافذة، ويده على خده، لا يأكل، ولا يكلم أحدًا.
*

قريب جدًا من هنا، ثمة أسرة تركت مسكنها في طرف المدينة ونزحت بسبب اشتداد المعارك، لتقيم في دكان منحها إياه أحد الجيران، لكنه بلا حمام، جار آخر اقترح عليهم الانتقال للسكن في دكانه ﻷن فيه حمامًا، ذهل عندما رأى عفشهم الذي نقلوه للدكان الجديد "كراتين ورقية" يفترشونها أثناء النوم، لا تمتلك اﻷسرة شيئًا لتأكله أو تستخدمه، اﻷب يعمل في مسح السيارات أما اﻷبناء فهم أطفال، لذا كانوا يتركون باب الدكان مواربًا، وعلى من يجد فضلة قوت يضعه أمام الباب فهناك من ينتظره بلهف ليسد به رمقه.

في يوم، وبينما كان اﻷب يمسح إحدى السيارات وخلفه طفله اﻷكبر، جاءت قذيفة هاون فقتلت ثلاثة من المارة، أصيب اﻷب في أطرافه بفضل السيارة التي التقفت الشظايا نيابة عنه، أما الطفل فقد أصابته بعضها وأفقدته إحدى عينيه، فيما اﻷخرى لفحتها نار الشظية على ما يبدو وفقد الرؤية.

جوار الباب الموارب يقعد الاثنان مضمدان بالشاش لسماع ضجيج الشارع والاستمتاع بأشعة الشمس.
*

وضع المقاتل الذخيرة في أنبوبة مدفع الهاون مستهدفًا القصر الجمهوري، لكنها لم تنفجر، قام بإخراجها، فطلب زميله أخذها زاعًما أنه يستطيع تحويلها إلى قنبلة، على رصيف قريب جلس الفتى يجري تجاربه على القذيفة وتجمع حوله عدد من اﻷطفال والشباب للمشاهدة، لسبب ما انفجرت القذيفة وأودت بحياة الأغلبية فيما بترت أطراف البعض وجرح من تبقى.
*

قبل أسبوعين كان سليمان جالسًا على كرسي قبالة محل أحد جيرانه، شعر بسائل يسيح على رقبته، تحسسها فوجدها مثقوبة وتخر دمًا غزيرًا. كانت رصاصة طائشة بلغته في مأمنه! باﻷمس رأيت سليمان وقد لف رأسه وعنقه بشال يخفي آثار العملية، وهو جالس على الكرسي ذاته، ولسان حاله مثل تعز الضجرة: اقتلوني ما شئتم.. أنا سئمة.

اقرأ/ي أيضًا:

حبيبتي تستيقظ من كابوس قناص

فقرات من كتاب الحرب