09-فبراير-2017

تزفيتان تودورف (1939 - 2017)

حين قرر تزفيتان تودوروف طلب اللجوء في فرنسا كان يعرف أن حياته بدأت من هنا. أي أنه ولد وعمره 24 عامًا. وهو غادر الحياة في 7 شباط/فبراير (1939-2017) تاركًا خلفه "زمن التوحش" والبربرية المتبادلة غربًا وشرقًا. كما ترك حين وصوله باريس "دكتاتورية" النظام السوفيتي في بلده الأم بلغاريا. لكن قلبه بقي معلقًا بطفولته. حين اكتشف باكرًا الكتب، بسبب عمل والديه في الوراقة. واكتشف معها القراءة وبدأ رحلته مع القصص الكلاسيكية الموجهة للشباب والمنشورة بتصرف، كألف ليلة وليلة وحكايات جريم وأندرسين وطوم سويير، وأوليفر تويست والبؤساء.

ما جعل اشتغال تودوروف هو توجهه إلى تفكيك الاستشراق وكيف يرى الغرب الآخر

قرار تودوروف اليافع حينها في البقاء في فرنسا كان صائبًا. وذاك العام شهد تقلبات مؤثرة في بلاد فولتير. كان على شاب في عمره أن يختبر مفاعيل الحريات المتضخمة وغمار تردداتها بعيدًا عن القمع وكم الأفواه. فبهرته الحركات النسوية التي تعمل بشراسة ضد "منع الرقابة" على جسد المرأة وحركة تسريح المرضى من مستشفيات الطب النفسي وسجن الأطباء فيها الناشطة في ذاك الوقت في أكثر من مدينة فرنسية، وتزامن وجوده مع انطلاق ثورة أيار/مايو. 

اقرأ/ي أيضًا: أثر الناقد.. نموذج تودوروف

بالطبع كان العالم متيقظًا أيضًا. ينتظر مآلات التظاهر في طهران، وباريس تعيد دبلوماسيًا تركيب خارطة تعاملها مع العالم العربي، بدءًا من فتح صفحة جديدة مع العراق. والنقاشات محتدمة في الداخل. كانت باريس لا تزال تستقطب الأضداد وتستثمر حراكًا ثقافيًا في الجامعات والأندية الثقافية في المقاهي وباحات الحدائق العامة. ووجد فيها المثقفون مكانًا لتبادل الأفكار وتنشيطها مع الشباب. كان زمن سارتر وميشال فوكو وجان جنيه. وبالطبع وجد الشاب الثائر (تزفيتان) نفسه سريعًا في عاصمة النور. حيث التحق في الجامعة ومن هناك شارك في التظاهرات ودافع عن العمال واليسار والحراك الاشتراكي وحصل فيما بعد على الدكتوراه في الآداب. أي أسس أول خطوة له كباحث. 

وقدم نفسه في وقت لاحق، داخل هذا المشهد المعقد والزاخر بالأفكار، كناقد ومترجم للأعمال الأدبية الروسية. وكانت دراساته الأولى حول ميخائيل باختين، تمهيدًا له ليكون أبرز المنظرين الحدثاويين في علم اللغة والأدب والنظريات البلاغية، كأمبرتو إيكو ورولان بارت. وصدر كتابه عن "المبدأ التحاوري" في العام 1981، فشكل منطلقًا معرفيًا هامًا في ميدان اللغة وسيميائياتها وعلم اللسانيات. وفاجأ كثر من الوسط الثقافي الفرنسي، الذين تنبهوا إلى هذا الصوت المتفرد. 

ومع بداية اشتغاله على إحياء البلاغة، ظهر عمله "الأدب والدلالة"، كتوثيق للدارسين في علم النقد والأدب، فتتالت نظرياته في السرد والشعر وبنيوية اللغة ومن ثم الرمز و"أجناس الخطاب". لكن الرجل الذي أخذته الحماسة في التعمق داخل اللغة وأشكالها ودراسة النصوص والتنظير في عالم الأدب، ساهم أيضًا في تأسيس مجلة "بويتيك" مع جيرار جينيت وكانت تنشرها دار "سوي". فشكلت إحدى الظواهر النقدية المؤسسة لتيار فكري يعتمد التنويع والخروج من السياقات السائدة. 

لكن ما جعل اشتغاله مفصليًا، بداية تحرره من البنيويات، والنظريات الكلاسيكية واتجاهه إلى تفكيك الاستشراق وكيف يرى الغرب الآخر. وفي كتابه "نحن والآخرون"، تجربة خصبة في التعامل مع الأنساق التي تركها الاستعمار والظاهرة الكونيالية في الشرق، وهو ما يتقاطع مع إنتاج المفكرة الأنتربولوجية جيرمان تييون، التي خاضت في دراساتها في عالم الإثنيات والأعراق وحققت دراستها عن قبائل البربر نجاحًا لافتًا. وللمناسبة أنه كان أكثر الناس حرصًا على تقديم أعمالها المعرفية بإشرافه أيضًا على جميعة أصدقاء جريمان تييون. 

وتمكن تورودوف عبر كتابه "نحن والآخرون" من التقاط حساسية تلك المرحلة وتأثيرها على التاريخ الحديث. فبحث في العلاقة بين "تنوع الشعوب والوحدة البشرية". فالشعوب تتنوع، لكن البشرية وحدة متكاملة، متكافئة. ويعتبر بقوله إن "سجادًا تقليديًا قد يكون أروع من لوحة تجريدية". 

بحسب تودوروف، الشعوب تتنوع لكن البشرية وحدة متكاملة ومتكافئة

وكان كتابه هذا لبنة نظرياته التي تأخذ منحًى إنسانيًا ببعدها الأخلاقي والمعرفي، وما جعله فيما بعد عرضة لكثير من الإقصاء من الميديا الفرنسية. فهو بالنسبة لكثر، معتدل أكثر من اللازم. لا سيما أن آراءه حول الحروب وما يجري في الشرق الأوسط، كانت لا تمنعه من التذكير بخطورة "البربرية الأوروبية" نفسها تلك التي تنزع الإنسانية من أفرادها. حيث انتقد هذه الكراهية الجلفاء واشتغل في معظم أعماله على التفاهم بين الثقافات وتفكيك ظواهر العنف وتأثيره على الذاكرة الجماعية والشعوب. فكان يلوم الغرب على انحرافه عن التنوير وخيانته للقيم الإنسانية الحضارية التي يتبجح بها. ففي كتابه "الخوف من البرابرة: ما وراء صدام الحضارات"، يتناول تودوروف تنامي شعور الخوف من "الاجتياح الإسلامي". ويحذر من انتشار عدوى الرهاب من الإسلام والمسلمين، بوصفه يفتح باب الارتداد عن القيم الغربية نفسها ولو باسم الدفاع عنها. فـ"الخوف يصبح خطرًا بالنسبة إلى الذين يشعرون به"، على ما يقول.

اقرأ/ي أيضًا: تزفيتان تودوروف.. صرخة مفكر في وجه تطرف الغرب

واتسمت علاقة تودوروف بإدوارد سعيد بشيء من الألفة. فقدمه إلى القارئ الفرنسي بمقدمة لامعة لكتابه "الاستشراق"، وكان منحازًا إلى القضية الفلسطينية وشعبها والمثقفين الذين وجدهم على الدوام مغايرين وقريبين من أفكاره. وأهدى كتابه "الخوف من البرابرة" إلى كل من سعيد وتييون، تخليدًا لذكراهما.

ويعد كتاب "فتح أمريكا" من أهم إنتاجاته. حيث عالج فيه رحلة كولومبوس إلى القارة التي كانت مجهولة لدى الأوروبيين، ليظهر أن تلك القارة كانت تنطوي على حضارة وثقافة، وعامرة بسكانها الأصليين مثل الأزتيك والإنكا والمايا وغيرهم. لم تكن مجهولة لدى سكانها، فما سُمّي "الاكتشاف" كان كذلك نسبة إلى كولومبوس ومن يقف وراءه. فهذا "الاكتشاف" لم يكن (إذًا) سوى غزو أو "فتح".

يرحل تودوروف في زمن البربرية الحمقاء، وهو يمعن الوداع لعالم يتكسر كل يوم. خصوصًا أن أوروبا أمام تحديات اليمين والفاشية، فما أحوج أوروبا إلى أمثال تودوروف وما أحوج فرنسا إلى فيلسوف بخامته.. وإنسانيته.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مأساة الأدب

رسائل إدوارد سعيد إلى صادق جلال العظم