13-مارس-2017

الباحث والدبلوماسي الفرنسي بيار كونيسا

"سنقدم لكم أسوأ خدمة، سنحرمكم من العدو"

  • ألكسندر أرباتوف، المستشار السياسي لزعيم الاتحاد السوفيتي ميخائيل جورباتشوف، موجهًا كلامه للولايات المتحدة. 1987.

لماذا نقتل أعداءنا؟ لماذا يكون لنا أعداء؟ ما الدور السياسي والاجتماعي الذي يؤديه العدو في المجتمعات المعاصرة؟ من خلال الإجابة على هذه الأسئلة المُلِّحة والمربكة، يحاول الباحث والدبلوماسي الفرنسي بيار كونيسا في كتابه "صنع العدو: كيف تقتل بضمير مرتاح" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015) والذي صدر بترجمة الأستاذ نبيل عجان أن يحثنا على التفكير بعيدًا عن آراء المفكرين والخبراء الاستراتيجيين العسكريين بخصوص الحرب، داعيًا إلى توسيع مجال البحث في فكرة العدو نفسه، فهؤلاء الخبراء وفق بيار كونيسا يتكلمون كثيرًا عن الحرب لا العدو بتحديدهم لمفهوم الحرب بكونها نزاعًا مسلحًا عادلًا، وانطلاقًا من هذه الفرضية ينسفون تمامًا فكرة البحث في ماهية العدو.

الحرب هي في حقيقتها ترخيص شرعي بالقتل لأناس نعرفهم أو لا نعرفهم

يقوم بيار كونيسا بالحديث عن العدو لا الحرب، وهو مختص بهذا الشأن؛ فقد كان بيار كونيسا يشغل منصب المدير العام للشركة الأوروبية للذكاء الاستراتيجي، كما شغل منصب مدير لجنة الشؤون الاستراتيجية في وزارة الدفاع الفرنسية، وهو الآن أستاذ في معهد العلوم السياسية. ويناقش الكاتب الكيفية التي يتم بها صناعة العدو، وكيف أن الحرب هي في حقيقتها ترخيص شرعي بالقتل لأناس نعرفهم أو لا نعرفهم، موضحًا منذ البداية أنه لا يهدف إلى تحديد طريقة ما للقتل سواء مقبولة أم لا، ولكن يهدف إلى تحليل كيف تنشأ العداوة وكيف يُوصف الطرف الآخر بالعدو، ثم يتوسع الكتاب في وصف النزاعات وتحديد الصور المختلفة للعدو وأشكال الحرب، ثم ينتهي لأشكال وصور تفكيك العدو بشكل سلمي.

اقرأ/ي أيضًا: "الدولة ضد الأمة".. خراب العالم العربي

ما العدو؟

في الفصل الأول من الكتاب، يناقش بيار كونيسا فكرة العدو من وجهة نظر الساسة وعلماء الاجتماع فيعرض وجهات نظر بعض المفكرين في المسألة ويقارن بينها، مثل الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1588-1679) الذي يرى أن الحرب تشكِّل نظامًا طبيعيًا باعتبار أن "الإنسان ذئب للإنسان"، فغريزة البقاء هي التي تقود الإنسان عند هوبز، أو جان جاك روسو (1712-1778) الذي يعارض نظرية هوبز ويرى أن الناس لا يكونون أعداءً إلا وقت الحرب عندما يتحولون من أفراد مدنيين إلى جنود يدافعون عن دولتهم.

ويخلص بيار كونيسا صاحب "دليل الجنَّة" إلى أن قانون الحرب يخضع لقوة الدول المتحاربة وبإمكان الطرف الأقوى نزع صفة العدو عن الطرف الأضعف أو المهزوم وتصنيفه كإرهابي أو كمجرم حرب، على شاكلة الأمريكيين الذين ابتكروا فئة مجهولة في القانون الدولي وأطلقوا عليها "المحارب غير الشرعي" وذلك لتبرير الانتهاكات بحق الأسرى. ويوضِّح كونيسا أن وجود العدو يقدِّم خدمات كثيرة للسلطة التي تواجهه مشكلات على الصعيد الداخلي، فيمكن أن يكون مخرجًا لها من خلال استدعاء خطاب القومية ودعم الدولة في مواجهة هذا الخطر الخارجي والتغاضي عن المشكلات الداخلية في هذا الوقت. ويصلح هذا التحليل حتى في الديمقراطيات العتيدة حين تكون ضحية البروباغندا الإعلامية كما يقول كونيسا "دعوني أؤكد لكم أنه ليس هناك ما هو أكثر تمركزًا على الذات من ديمقراطية ما في حالة حرب فهي تميل في هذه الحالة إلى أن تنسب إلى قضيتها قيمة مثالية تشوِّه رؤيتها للأشياء ويصبح عدوها تجسيدًا للشرِّ فيما يكون معسكرها مركز الفضائل كلها".

وجوه العدو

في الفصل الثاني، يقوم بيار كونيسا بعمليه تصنيف لصور العدو، مؤكدًا أن النماذج المذكورة ليس منها ما هو نقي تمامًا، بل في أغلب الأحيان يكون العدو مزيجًا من أصناف وأشكال مختلفة، وكل حالة من هذه الحالات تستجيب لخصائص استراتيجية مُعيَّنة، وتبنى على خطاب مُعيَّن مع محددات خاصة بها وإشارات يمكن التحقُّق منها، فهناك العدو القريب الذي ينشأ نتيجة النزاعات الحدودية، وتعدُّ الحروب الحدودية أكثر الحالات انتشارًا بين الحروب، وفي هذه الحالة يكون النزاع على استملاك الأرض بالقوة. 

الحرب الأهلية عملية إقصاء جغرافي وجسدي لجزء من أجزاء المجتمع من خلال العنف

وهناك المنافس الكوكبي، إذ يكون التنافس بين قوتين تفرضان نفسيهما على الساحة العالمية من خلال التوسع الإمبريالي كما في النزاع الأمريكي-السوفيتي، أو النزاع الفرنسي-البريطاني سابقًا، أو النزاع الأمريكي-الروسي حاليًا.

اقرأ/ي أيضًا: طبعة جديدة من "السياسة" لأرسطو

وهناك العدو الحميم كما في حالات الحروب الأهلية، إذ يعتبر بيار كونيسا الحرب الأهلية عملية إقصاء جغرافي وجسدي لجزء من أجزاء المجتمع من خلال العنف. وهناك العدو الخاضع للاحتلال، وفيه تُصاغ صورة العدو من قبل المحتل ارتكازًا على خاصيتين، الأولى شعور القائم بالاحتلال بأنه في حرب خفية تستلزم منه البرهنة على قوته، والثانية أن كل عنف أو مقاومة يُلاقيها من الخاضع للاحتلال يتم تحقيرها ثقافيًا ووصفها بالعمل الإرهابي، وبالتالي تؤول الأمور إلى فرض حالة سلام بالأمر المباشر تُبقي الاحتلال في صورة رضائية من قِبَل الخاضع للاحتلال.

وهناك العدو الخفي الذي ينتجه الانقياد لنظرية المؤامرة، ونظرية المؤامرة أقل من حرب لكنها تولد تطهيرًا مدفوعًا بعقدة الاضطهاد فهي تُجيب على كل التساؤلات في الأوضاع الخطرة وتفسِّر غياب الحلقة المفقودة في كل شيء. وهناك العدو المطلق، ويهدف المتحمسون لهذه الفكرة إلى وجوب حرب كونية على عدو يمثل الشر المطلق ضمن رؤية دائمة التجدد لعودة المسيح إلى الأرض وقيام حرب مقدسة تكون بمثابة طرد الأرواح الشريرة، ووفقًا لذلك التصور يصبح الكذب مشروعًا ويجد تبريرًا إلهيًا، كأكاذيب فريق جورج بوش الابن بالنسبة للحرب على العراق. وهناك العدو المتصوَّر، حيث تبتكر أحادية دبلوماسية قوة كبرى مهيمنة، مثل الولايات المتحدة في عهد جورج بوش الابن، عدوًا متوَّرًا على مقاسها مع إقصاء كل نسبية ثقافية. وهناك العدو الإعلامي الذي تُستخدم وسائل الإعلام في شيطنته، دون النظر في ما يمثله من تهديد استراتيجي.

وبعد استعراض وتحليل هذه الأنواع كلها، يشير الكاتب بيار كونيسا إلى أن ما يجمعها هم مُسرّعو الأزمات من العسكريين ورجال الساسة مفتقري الشرعية، حيث تشدُّ كل فئة بلحية الفئة الثانية، إما باسم الدفاع عن الأرض المقدسة أو المصلحة العليا للبلد، بينما لا يعير باقي السكان المُبعَدين عن سلطة القرار، والمشغولين بمسائل يومية، أهمية كبيرة للأمر، إلا في الأوقات عندما تستعر الأزمات القومية. ففي الأنظمة الشمولية -كما يوضِّح المؤلف- يحصر الزعيم والحزب الأوحد المسائل الاستراتيجية بين بعض الأيدي ما يجعل النقاش الداخلي مستحيلًا، ويتم التهميش السريع للمثقفين الذين يريدون أن يكرِّسوا أنفسهم لهذه المواضيع، فيهاجرون غالبًا، وعليه يُغلق النقاش ويُحصر في حلقات صغيرة نتاجها يكون تكرارًا للخطابات الرسمية.

تفكيك العدو

يناقش بيار كونيسا في الفصل الثالث من كتاب "صنع العدو" إمكانية تفكيك هذا العدو، ويدلّل بيار كونيسا على هذا بأمثلة تاريخية كالمصالحة التاريخية بين فرنسا وألمانيا، بعد ثلاثة حروب مدمرة بين عدوين وُصفا بأنهما "وراثيان". فبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، أراد الحلفاء المنتصرون أن يجعلوا ألمانيا تدفع الثمن، وهذا هو النهج المتعارف عليه للمنتصر، لكن مع تكرر النزاع بين الدول ذاتها اختلف المسعى عقب الحرب العالمية الثانية، وقرر المنتصرون أن من سيدفع الثمن هذه المرة هم المسؤولون النازيون، ولأول مرة جرى الفصل بين العدو وبلده.

هناك ثلاث طرق للخروج من الحرب الأهلية، وهي: النسيان والصفح والعدالة

اقرأ/ي أيضًا: "الطبقات والتراصف الطبقي" بحسب روزماري كرومبتون

ويتحدث بيار كونيسا صاحب "آليات الفوضى" عن طرق وصور وأشكال تفكيك العدو التي تشمل الاعتراف بالمسؤولية والتكفير عن الذنب وتكوين ذاكرة مشتركة وتحقيق العدالة وأخيرًا المصالحة، وإن كانت الأخيرة أكثرها صعوبة ولكنها أكثر فاعلية. ويشير بيار كونيسا إلى أن هذه الطرق لاقت نجاحًا في بعض دول أمريكا اللاتينية وإسبانيا ممن فضلت قوانين العفو النسيان على العدالة والعقاب، من أجل تشجيع العودة إلى الديمقراطية.

كما يحدد بيار كونيسا ثلاث طرق للخروج من الحرب الأهلية، وهي النسيان والصفح والعدالة، غير أنه يختتم كتابه بالتأكيد على أنه ليس كتابًا يدعو إلى السلام مستشهدًا بمقولة هوبز "من دون السيف فإن المعاهدات ليست سوى كلمات"، مشيرًا إلى رغبته في لفت الانتباه إلى الوزن المفرط الذي تمثِّله نظريات القوة التي تُلهم الآليات العامة للتأملات الاستراتيجية في الديمقراطيات، والتي تولِّد نزعة لاواعية إلى الحرب، مقدِّمًا الاتحاد الأوروبي كتجربة تمثِّل كيانًا بلا عدو، رغم ما يعترضه من عقبات ذاتية وموضوعية وتحديات خارجية، إلا أن تصوره للدفاع المشترك يمنحه فرصة لتقليل الأعداء، إذ يقول "ومع هذا يمكن التفكير بأن دراسة آليات الكشف عن صنع العدو تساعد ربما في استباق أسباب النزاعات وتقليصها، وأثبت ذلك أحيانًا انضمام بعض البلدان التي كانت في السابق متنافسة، لا بل حتى متعادية، إلى الاتحاد الأوروبي".

اقرأ/ي أيضًا:

هايدغر في الفكر العربي

المركز العربي يقارب الذكرى المئوية للحرب العالمية