23-سبتمبر-2017

لطفي زادة (يوتيوب)

وُلد زادة في العاصمة الأذربيجيانية، باكو، لأبٍ تركي وأُم روسية يهودية. غادرت العائلة الاتحاد السوفيتي عندما كان في العاشرة من عمره، وانتقلوا إلى طهران، حيث درس بالمدرسة الأمريكية، وهي مدرسة تبشيرية، كان معظم أساتذته أعضاءً بالكنيسة المشيخية من وسط غرب الولايات المتحدة، فكتب زادة "وقعت في حب الولايات المتحدة والمبادئ الأمريكية عن بُعد".

منذ عام 1965، حشدت الورقة البحثية الافتتاحية لزادة عن المنطق الضبابي ما يقرب من 93 ألف استشهاد أكاديمي وفقًا لمحرك جوجل العلمي

تخرج زادة من جامعة طهران عام 1942 وحصل على شهادة في مجال الهندسة الكهربائية، ثم ذهب إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ثم إلى كولومبيا، ثم إلى معهد الدراسات المتقدمة في برينستون بولاية نيوجيرسي، وأخيرًا انتقل عام 1959 إلى جامعة كاليفورنيا في بيركلي، حيث ظلّ هناك حتى نهاية حياته المهنية.

تزوج لطفي زادة وكانت زوجته فاي التي التقى بها في طهران في مطلع ذات العام، وأنجبت له طفلين هما نورمان وستيلا، وهي الابنة التي توفيت هي الأُخرى عام 2006.

عندما تحدثت إلى نورمان، قال إن أباه كان راقصًا جيدًا، ولاعب تنس موهوب، ومصورًا فوتوغرافيًا رائعًا، فقد التقط صورًا للعديد من العظماء الذين مروا على بيركلي، والتقط صورًا أيضًا للرئيس ريتشارد نيكسون ذاته.

اقرأ/ي أيضًا: الطفل المعجزة جاكوب بارنيت.. من التوحّد إلى العبقرية

وفي إحدى ليالي تموز/ يوليو عام 1964، وجد عالم الرياضيات والمنطق لطفي زادة نفسه وحيدًا في شقة أبويه بمدينة نيوريورك، فقد أُلغيت خطط العشاء الخاصة به. كتب زادة لاحقًا أنه كان في ذلك الوقت "يفكر كثيرًا حول المسائل الرئيسية المتعلقة بتحليل الأنظمة، وخاصة مسألة عدم قطعيّة حدود الفئات والأجناس التي تتعلق بفشل الأشياء الموجودة في العالم المادي في أن تنسجم مع المنطق الكلاسيكي البولياني: وهو أحد فروع الجبر التي تعمل بمُتغيرين فقط مثل الخطأ والصواب، أو الأسود والأبيض، أو الصفر والواحد الصحيح؛ وهو المنطق الذي يعود إليه كثيرُ من الفضل لأسس علوم الحاسوب الحالية". يتذكر زادة قائلًا: "كانت تلك هي النقطة التي تجلى لي من خلالها المبدأ البسيط للمنطق الضبابي". ويضيف: "لم يستغرق الأمر كثيرًا من الوقت قبل أن أُرتب أفكاري وأكتب ورقةً بحثيةً حول الموضوع".  

بدأت الورقة التي نُشرت خلال الصيف التالي في دورية "المعلومات والتحكم"، بتفسيرٍ مختصرٍ لما اعتبره زادة ضبابيًا: فعلى سبيل المثال، فئة الحيوانات تضُم بوضوح الكلاب، والخيول، والطيور، وما إلى ذلك من جنس فئتها، وتستبعد بوضوح ما ليس من جنس فئتها هذا كالصخور، والسوائل، والنباتات، وما إلى ذلك. وعلى الرغم من هذا، تمتلك كائنات أُخرى مثل نجم البحر والبكتيريا وأشياء مُشابِهة، مراتب وأوضاعًا ملتبسةً فيما يتعلق بجنس الحيوانات.

ينشأ نفس النوع من الالتباس في فئة جميع الأرقام الحقيقية التي تكون أكبر من الواحد الصحيح، أو  فئة النساء الجميلات، ومع ذلك فالحقيقة لا تزال تفيد أن مثل هذه الفئات غير المُعرفة بصرامة تلعب دورًا هامًا في التفكير البشري، ولا سيما في مجالات التعرف على النماذج، ونقل المعلومات، والفكرة المجردة.

فكرة زادة أو جدليته تُشبه الفكرة التي عبر عنها إلبرت أينشتاين قبل أربعة عقود من ذلك الوقت، وذلك في كتابه "الهندسة والتجربة" (Geometry and Experience). كتب أينشتاين: "ما دامت قوانين الرياضيات تشير إلى الواقع، فهي ليست يقينية مؤكدة. وطالما أنها يقينية مُؤكدة، فهي لا تشير  إلى الواقع".

اقرأ/ي أيضًا: جواد الخراز.. المغرب العلمي ضمير مستتر

زادة الذي توفي في السادس من هذا الشهر عن عمر يناهز السابعة والتسعين عامًا، كانت لديه آمال متواضعة تتعلق بورقته البحثية. فقد اكتشف أن السبب الرئيسي لقبولها هو أن مؤلفها كان عضوًا في هيئة تحرير دورية المعلومات والتحكم.  

ولكن حظي ابتكاره تدريجيًا بالمتابعة وخاصة في الشرق، ففي الثمانينيات والتسعينيات، أدمج المهندسون في مدينة سنداي باليابان المنطق الضبابي في تصميم مترو الأنفاق الجديد للمدينة، حيث استخدموه في برمجة انطلاقات وتوقفات النظام التي اشتهرت بسهولتها. تضم قائمة الأجهزة الإلكترونية التي اتبعت المنطق أو المنهج الضبابي الكاميرات، والغسالات والمجففات، وأنظمة ناقل السرعات ومنع انغلاق المكابح في السيارة، ومكيفات الهواء وأجهزة تنظيم الحرارة، وأواني طهي الأرز، والمكانس الكهربائية، والطائرات المروحية بدون طيار.

ولكن لا يزال أغلب زُملاء لطفي زادة في الغرب يعبرون عن ازدرائهم هذا المنطق، إذ يصف المهندس الكهربائي رودولف كالمان المنطق الضبابي بأنه: "نوعٌ من التساهل العلمي"، كما نبذهُ عالم الرياضيات وليام كاهان معتبرًا إياه "أفيون العلوم". إلا أن فكرة لطفي زادة لا تزال مستمرة. فمنذ عام 1965، حشدت الورقة البحثية الافتتاحية لزادة ما يقرب من 93 ألف استشهاد أكاديمي وفقًا لمحرك جوجل العلمي.

لا يزال أغلب زُملاء لطفي زادة في الغرب يعبرون عن ازدرائهم للمنطق الضبابي، إذ يصفه المهندس رودولف كالمان بأنه نوع من التساهل العلمي

العالم الذي كان يعمل دائمًا بلا انقطاع. قال عنه ابنه نورمان: "في يوم من الأيام، كان لديه رأيٌ حول شيء ما، ولم يكن ثمة سوى احتمال ضئيل بأن يقتنع بعدم صوابية رأيه"، وهذا قد تسبب في ميل لطفي زادة إلى الاختلاف ولكنه كان يحظى ببعض الجمهور المتحمس له، ففي الثمانينيات، سعى بارت كوسكو، أستاذ مجال المعلومات بجامعة جنوب كاليفورنيا، لأن يكون لطفي زادة أحد مشرفي رسالة الدكتوراه الخاصة به، إذ قال كوكسو :"على الصعيد المعرفي، كان قامة كبيرة"، وأضاف: "لقد علمت أن كلمة قامة كبيرة تصف شخصًا يكون رأسه في السماء وقدمه على الأرض، وكان هذا تحديدًا هو لطفي زادة".

على نحو يلائم وصف كوسكو بما فيه الكفاية، كان التوضيح الأول والأشهر لزادة حول المنطق الضبابي يتضمن الرجال طوال القامة.  يشرح كوسكو : "فالانضمام إلى المجموعة يزيد بسلاسة مع الطول، لذا فإن كل رجل هو طويل بدرجة ما"، ويضيف: "إذا كان الشخص (س) طويلًا بنسبة تصل إلى 70 %، لذا فإنه أيضًا غير طويل بنسبة تصل إلى 30 %، وأن يكون المرء طويلًا جدًا تعني أنه يثبت أقدامه في هذه المجموعة. فالرجال طوال القامة جدًا ينتمون إلى مجموعة طوال القامة، ولكن ليس جميع المنضمين إلى مجموعة طوال القامة هم في حد ذاتهم طوال القامة جدًا. يقود هذا على الفور إلى نتيجة مفادها أن الرجال غير الطوال جدًا هم ليسوا طوالًا جدًا" (لم يكن لطفي زادة نفسه أطول رجل في الغرفة عندما يُظهر كامل قامته، فلم يكن طوله يتجاوز 180 سم).

من الناحية العملية، يوجد صنف كبير جدًا من التطبيقات الرياضية للمنطق الضبابي في علم الجبر، ونظرية اللعبة، والهندسة، والبرمجة الخطية، والاحتمالات، والإحصاء، والتوبولوجيا.

لطفي زادة لا يتخلى عن قيم الحقيقة الكلاسيكية، الصواب والخطأ، لكنه يسمح بمزيد منها أو أُخرى إضافية

على سبيل المثال، قدم كوسكو فكرة الخرائط المعرفية الضبابية، وهي أداة ذكاء اصطناعي يبدأ الباحثون في تطبيقها في تحليلات الطب والهندسة والدفاع، ومجالات أخرى. وفقًا لشرح أحد الكتب الجديدة الضخمة، وهو كتاب "المنطق الضبابي والرياضيات" (Fuzzy Logic and Mathematics)، فإن بديل لطفي زادة لا يتخلى عن قيم الحقيقة الكلاسيكية - الصواب والخطأ - لكنه يسمح بمزيد منها أو أُخرى إضافية، كان الخيار دائمًا واقعًا بين الواحد، للتعبير عن الصواب، والصفر، للتعبير عن الخطأ. والآن، صارت جميع الأرقام الدخيلة، و القيم اللانهائية، مُتاحة أيضًا.

أخبرني جوزيف دوبن، وهو مؤرخ علوم في جامعة مدينة نيويورك وأحد مؤلفي الكتاب، في بريد إلكتروني قال فيه: "أوضح لطفي زادة أن هذا هو نطاق الاحتمالات بين هذه الحقائق المطلقة الدقيقة التي هي أغنى وأكثر تشويقًا؛ إذ إنها درجات الحقيقة التي تضع نموذجًا أكثر واقعية للمواقف الحقيقية التي نواجهها في العالم الحقيقي"، وأضاف: "يساعد المنطق الضبابي مثل نظرية الفوضى، في التعامل مع المواقف التي هي من ناحية أخرى قد تصعب التعامل معها بطريقة عقلانية حسية".

على الرغم من هذا، لا يزال لدى علماء المنطق درجة من عدم التأكد بمزايا الضبابية. حضرت خلال ربيع هذا العام مؤتمرًا في بيركيلي يحتفي بالذكرى السنوية الستين لمجموعة "المنطق ومنهجية العلوم" التي كان لطفي زادة من أوائل أعضائها. وصف أحد المتحدثين في هذه الاحتفالية، وهو رون فيجن، عالم الرياضيات والزميل في شركة آي بي إم، استخدام المنطق الضبابي لحل مشكلة دمج معلومات من نوعين على قاعدة البيانات، فكانت النتيجة عبارة عن خوارزمية كُفؤة جدًا، ومختصرة جدًا تتألف من عشرة أسطر فقط، ولكن خلال تناول وجبة الغداء في أحد الأيام، عندما سألت عددًا من الحضور حول ما يعتقدونه بشأن منهجية لطفي زادة، توتر المزاج العام. إذ قال جيريمي أفيغاد، وهو أستاذ فلسفة في جامعة كارنيغي ميلون: "إنني عالم منطق، وأحب ترتيب الأمور". واختتم ببساطة زميله جيريمي راثغن من جامعة ليدز، قائلًا: "شديدة الغُموض" .

كان لطفي زادة بلا شك سيستمتع بخوض هذا الجدال، فقد أخبرني كوسكو قائلًا: إنه "كان يُناقض التناقُض". التُقُطت صورة للطفي زادة في طهران عندما كان طالبًا. فقد كان يدرس بينما تعلو المكتب إشارة مكتوبة بالروسية تقول " один"، وهي تعني "وحيد".

مترجم عن الرابط التالي

 

اقرأ/ي أيضًا:

إسماعيل مهنانة.. فيلسوف في الجامعة الجزائرية

أحمد زويل.. الشخصية العامة