16-مايو-2016

الجزائر العاصمة 1900 (Getty)

أبادر إلى القول إنها ليست مفاصلَ من رواية جديدة، بل هي مفاصل من السيرة الذاتية لعلي بلميلود، صعلوك الجزائر العاصمة الذي يحلم بأن يخترع مبرّدًا لجهنم، فكان حلمه هذا عنوانًا لديوانه الشعري القادم، وقد خطفتها منه خطفًا، في آخر سهرة جمعتني به، بعد غياب دام ثلاثة أعوام.

إذا كان المسجد بيتَ الله، فإن الحانة بيت أحبابه، إنه منطق التشرد أحيانًا

قال لي، وهو يعبّ نبيذًا إسبانيًا، لا تعقيب على الصنف الرديء، إنه إذا حذف الأحداث التي وقعت له، تحت سلالم الجزائر العاصمة، فلن يبقى له من الأحداث المهمة إلا شذرات طائرة، وأشار إلى قطرة على حافة الكأس، ثم تدارك: "أعتذر للأحداث التي وقعت لي في حانات المدينة، فهي أيضًا ليست بسيطة". لا يفرّق بلميلود بين حانة ومسجد، في مسعاه إلى صفاء الروح، فقد تعلّم من صديقه سعيد القوسطو، أحد أكبر متشردي العاصمة، والذي كان عازفًا في فرقة دحمان الحراشي، أنه إذا كان المسجد بيتَ الله، فإن الحانة بيت أحبابه، وأعطاه مائة دليل واقعي على ذلك.

اقرأ/ي أيضًا: شوقي بوزيد يصرخ.. ماما أفريقيا

قال إنه يفكر جديًا في أن يحتفي بهذه السلالم في كتاب خاص، لا هو بالشعر ولا هو بالنثر، لكنه بينهما، وما يهمه فيه، أن يتحدث عنها كأداة للانحدار لا الارتقاء، فهو لا يذكر أبدًا أنه مارس عبرها فعل الصعود. قلت له: "كيف تهبط إن كنت لم تصعد؟" قال وهو يتفقد كأسه، هو لا يغفل عن كأسه أبدًا، ويرى في فراغه علامة شؤم "ليس من حقي أن أجيبك الآن. هل تعرف السلّم المؤدي من قصر رياس البحر في حي باب الواد إلى البحر عبر الملعب الترابي الصغير؟ مرة.. كنت أعاني جوعًا كافرًا، فقد مضت علي أربعة أيام لم أذق فيها طعامًا، ولم ألتقِ صاحبًا، طيلة تلك الفترة، لأطلب منه نقودًا.

قلت في نفسي: أقصد البحر، إن لم يكن للمناجاة وكتابة قصيدة فللانتحار، لا أذكر أنني كرهت حياتي، مثلما كرهتها في تلك الساعة. لماذا لا نكتب عن الساعات التي كرهنا فيها حياتنا؟ عبرتُ السلّم، فإذا بي أسمع وحوحاتٍ ذكورية، بما يشي أن أحدهم فوق إحداهن. طلبت من خطواتي ألا تفضحني، ومنحت أذنيّ إلى جهة الشهوة.

اقرأ/ي أيضًا: محمد بن جلّول.. يضع الليل على طاولته

كان الفتى يمارس العادة السرية، مستحضرًا في خياله فتاة اسمها فاطمة، وعرفت من خلال مخاطبته لها، صفاتها وأفعالها وعلاقته بها. أنهى حجه الجسدي المقدس، فتسللت إلى الشاطئ، وأنا مدجج بمعلومات كثيرة عنهما. تمنيت أن يتبعني إلى هناك، وهذا الذي كان.

جلس الفتى على الرمل، وأخرج من زوادة له خبزًا وجبنًا ونبيذًا وتبغًا، أقصد ما كنت بحاجة إليه تمامًا، فقررت أن أسلبه إياه. سلمت عليه، وطلبت منه سيجارة، أعطاها لي بطريقة أوحت لي بأنه لا يرغب بالتواصل معي، فألقيت له طعمي الأول: "ربي يجمعك بمن تحب"، استدار مخطوفًا: "آمين"، قالها بسرعة تلخص لهفته إلى فتاته. قلت كأنني أخاطب البحر: "ستجتمعان"، قال: "كيف عرفت؟"، ألقيت بالطعم الأكبر: أنا عرّاف، وإن شئت أخبرتك باسمها وتفاصيلها.

سردت عليه حكايته مع فاطمة، مستعينًا بما سمعته منه، تحت السلّم، وبخيالي الذي كان مستعدًا لمساعدتي على أن يتنازل لي الفتى طواعية عن زاده، وهذا الذي حدث. كان يطعمني ويسقيني بنفسه، وبقي على تلك الحال شهرًا كاملًا، إلى أن وجد -على غير المنتظر منه- جثة هامدة في قاع السور. هل تدري أنه من أكبر أحلامي اليوم، أن أجد فاطمة لأعطيها رسالة طلب مني أن أكتبها لها ليلة السلّم تلك؟.

لم أرَ بلميلود غارقًا في الصمت، مثلما رأيته تلك اللحظة، وفجأة تخلى عن كأسه، هو لا يتخلى عنها إلا في حالات خطيرة جدًا، وانطلق يعدو مثل فكرة في بال مهبول نحو باب الواد.

لم أستطع أن أقدّر هل أتبعه أم أتركه لحاله؟ تبعته بسرعة أقل من سرعته، وما إن رأيته انعطف عبر السلّم، حتى عرفت أنه يقصد المكان الذي سمع فيه صاحب فاطمة أول مرة. كان يصلي ويبكي.

اقرأ/ي أيضًا: 

"بوسعادة" الجزائرية.. كرم حار جدًا

الآداب والعلوم الإنسانية في الجزائر.. إلى أين؟