21-يونيو-2020

صادق كويش الفراجي/ العراق

لم يكن الشروع في كتابة يومياتي بالجزائر سنة 2009 مفاجئًا لي، إذ كنت وأنا أدخل مطار هواري بومدين أعي جيدًا أنني أجر جسدًا سياسيًا، جسدًا توقّف على أن يكون جسدًا ذاتيًا. كنت أعي أنني أهرّب ذلك الجسد "الذي أشير إليه بقولي أنا" من خطر سياسي، فالمكالمات التي كانت تأتيني وأنا بتونس أخوض إضراب جوع كانت تستهدفه. لم يكن في تلك التهديدات شيئًا يستهدف روحي ولا كتاباتي ولا حتى فكري ولا عقلي، كلها كانت تقول إنهم يريدون استئصال ذلك الجسد والتنكيل به وطمسه، وتختلط التهديدات الشخصية بشتائم تستهدف جسد أمي جنسيًا، وهي أيضًا تهديدات تستهدف الجسد الرمزي.

يحمل الكائن أجسادًا كثيرة بعدد تجاربه الحياتية، لذلك حتى عندما تستولي الذكريات على اليوميات تظهر تلك الأجساد التي عاشتها

لذلك عندما شرعت في كتابة يومياتي كنت كثيرًا ما أصغي إلى ذلك الجسد الذي كنته. كنت أعي تمامًا أن الكائن أيضًا يحمل أجسادًا كثيرة بعدد تجاربه الحياتية، لذلك حتى عندما تستولي الذكريات على اليوميات تظهر تلك الأجساد التي عشتها كحالة سياسية. وأخرى عاطفية وأخرى اجتماعية وميتافيزيقية وإيروسية.

اقرأ/ي أيضًا: معلّمو غابرييل غارسيا ماركيز

عندما بدأت ذلك المساء الجزائري في كتابة "واحد - صفر للقتيل" كنت محمّلًا بمخطوط روائي غير منجز، سيظهر بعد ذلك بعنوان "الغوريلا"، قلبته بعد ذلك كل يوم بلا جدوى. وكأن التجربة دحرت التخييل وأقصته لتستحوذ على فعل الكتابة. كنت أهرّب الذات الكاتبة من فضاء طارد اسمه تونس بن علي بنظامه الاستبدادي لأجد في الفضاء الذي لذت به فضاء أكثر عدوانية. فضاء ملطّخ بكل الهزائم ومسربل بكل دماء العشرية السوداء، فضاء يعيش وفق اتفاقية شديدة البؤس الأمن مقابل الفساد، واختلقت له كوميديا سوداء: حربًا استعارية سمح للشعب أن يعيشها كفانتازم سياسي لكي لا ينفجر من يأسه؛ حربَ كرة القدم بين الجزائر ومصر ولذلك انخرط في هذه الحرب جل الشعب الجزائري المقيم بالجزائر بكل طبقاته الاجتماعية والثقافية. لم يكن الوعي قادرًا على جعل المواطن الجزائري يكبح جماح رغبته في المشاركة في تلك الحرب الاستعارية أو ذلك الأفيون.

في ظل تلك المدينة وعند منحدر السيدة المتوحشة، كما وصفها سيرفانتس، الذي وجدت نفسي مثله أسيرَ ورطة جديدة، كان علي أن أجد ذاتي التي لم أعد أعرف من هي بالضبط والتي اختُزلت في جسد دونكيشوتي هزيل، سمح له بصعوبة بالمرور ودخول مطار هواري بومدين الجزائري بعد أن فشل رجل الجمارك في العثور على الشيء الذي يجعل الجهاز يصفر كلما عبر البوابة، رغم تخلصه من كل المعادن التي في جيوبه.  

في تلك الليلة بدأت أكتب اليوميات منطقًا من ذلك التوجّس للجهاز من رجل أعزل يهم بدخول الجزائر. ربما لم تكن مدينة الجزائر تتحمّل مزيدًا من الحزن لتقبل رجل الأحزان والأوجاع التونسية الذي ترك العالم كله وجاء إليها، لأنه يعتقد أن قربه من لحمه المتروك بتونس (ابنه ذو السنة والنصف) سيجعله أقل ألمًا.

في اليوميات وجدتني أتحرر من عقم ذلك الخيال الذي عقّد روايتي "الغوريلا" وثبّتها في لحظة سردية ما ومنعها بأغلال ثقيلة من التقدّم. كانت اليوميات تهدر مثل نهر بعد استولت حتى على روح الرواية فكنت أكتبها وأتفاجأ بها لأَنِّي كنت أكتشف أن هذه الذات التي لم أمسك منها غير ذلك الجسد المهدور ذاتًا روائية تمضي في تأثيث نفسها عبر حبكة معقّدة في الحياة أشد تعقيدًا من الحبكة الروائية نفسها. أن تكتب اليوميات بذلك الصدق فهذا يعني أنك تعرض جسدك للطعن. كنت أكتب كل يوم ثور الكوريدا ومع كلما أنهيت يومية كان هناك رمح يغرس في الظهر.  

كنت أسير في الجزائر العاصمة أبحث عن مأوى ولم تكن تلك المدينة تعبأ بي. كانت المدينة تدير ظهرها للمجانين والواقفين فوق بناياتها وعلى الجسور خارجها يهمّون بالانتحار. كانت الجزائر في تلك الأيام تبدو امرأة جميلة ميتة. أو كما وصفتها في اليوميات امرأة جميلة احترق وجهها. كيف يمكن أن تجد نفسك الملعونة المطرودة في هذه المدينة المحتضرة؟

أن تكتب اليوميات بذلك الصدق فهذا يعني أنك تعرض جسدك للطعن

وجدت نفسي من جديد ألوذ بجسدي. لا شيء بقي لي في تلك الغربة في مدينتي الحزينة التي قبلتني على مضض غير جسدي. ذلك الجسد المشبوه الملعون من النظام التونسي والمشتبه به في المطار الجزائري والمشتهى قبل أن يصل حيث استحوذت عليه نساء قبل وصوله وافتكته نساء أخر بعد وصوله.

اقرأ/ي أيضًا: الرّجاء وضع قناع واق من الغازات قبل الدّخول إلى "بلاد الثلاثاء"

ألاّ أجد مسكنًا لمدة أربعة أشهر وأبقى أهيم على وجهي في لجوء وقتي بمقر عملي الوقتي جعل من التصاقي بجسدي السياسي أكثر عمقًا، وجعلَ وضع دون مقر أقامة (SDF) منه جسدًا أكثر عرضة لكل أصناف الابتزاز. لا يمكن لهذه الذات أن تترك كل هذا الزخم من التجربة للتخييل ولتكتب رواية. زاد الأمر تعقّدًا يوم وجدت أو رضيت بتلك الغرفة الصغيرة في الطابق الثاني تحت الأرض بمنطقة الأبيار، والتي كانت أشبه بخزانة كبيرة ووجدت نفسي في وضعية لا مفكّر فيها. رجل غريب في خزانة تحت الأرض. يخرج صباحًا للعمل يركب وسائل النقل العمومية لينشر جسدًا رسميًا كاذبًا يتقنع به في المؤسسة العربية التي يشتغل بها. ويتابع به في الشارع الجنون الكروي والجنون السياسي التونسي عبر البريد الإلكتروني. كانت تأتيه أخبار الأجساد التونسية التي جعل منها النظام أجسادًا مريضة أو معوّقة أو سجينة، أجساد معطوبة تجس على الطرق خطى شقائها الكبير. الزفرات الأخيرة لشعب ما قبل الموت أو الانتفاضة.

هكذا لم تعد كتابة الذات كتابة للفرد، بل أصبحت كتابة منفتحة بجراحها على كل الآلام الجماعية التونسية منها والجزائرية والعربية. لم يعد الجسد الصغير الذي تركته بتونس جسد الصبي ذا شأن إلا باعتباره رمزًا للجسد الكبير. جسد ذلك الشعب الذي نزعت نفسي منه وهو يحتضر لأزيده ألمًا. لم أكن مناضلًا ومعارضًا سياسيًا في تونس، بل كنت صوتًا ثقافيًا مزعجًا. وإزعاجي يبدأ من ارتفاع الصوت وصفائه ومن شباب الجسد وفتوته، فالنظام تزعجه الأجساد النضرة الشابة القوية عندما تعلن عصيانها، لذلك أرهق نظام بن علي في تأطيرها والتحكم فيها، تلك القوة الناعمة حتى أطاحت به يومًا.

في الجزائر كانت الكافكاوية التي سقطت فيها جعلت ذلك الجسد القوي يتآكل وتهاجمه الأمراض والأوهام، لتدرك عظامه وتصيبها بالهشاشة. فبعد أن وجدت صباحًا صندوق بريدي الذي حمل اسمي مهشمًا في رسالة من السكان أنهم لا يريدونني حتى في تلك الخزانة في الطابق الثاني تحت الأرض، كان على ذلك الجسد الدونكيشوتي الهزيل أن ينتقي من المطبخ سكينه ذا المقبض البلاستيكي الأزرق ويضعه في جيب معطفه الرمادي كلما أراد أن يخرج أو هم بفتح الباب.

كنت أكتب كل يوم بسبب السهاد فلا أكاد أنام ساعتين في الليلة، وأقضي بقية الليل أتقلب في تلك الخزانة كرجل ميت أفاق بعد رحيل المشيعين. سمحت لي تلك العزلة أن أتأمل العالم وأنظر في ذاتي لأول مرة نظرة مختلفة. كنت أكتشف كل شيء من جديد وأستنطق الأشياء، خاصة بعد أن أخبرني صاحب سيارة الأجرة أن شقتي قد قتل فيها أجنبي في العشرية السوداء. كان ذلك الخبر مثل رصاصة أصابت جنديًا ولم يبق في يديه غير الرمانة اليتيمة، لم تكن تلك الرمانة غير الكتابة. أين بالضبط عليه أن يلوح بها ومتى؟

النظام تزعجه الأجساد النضرة الشابة القوية عندما تعلن عصيانها، لذلك أرهق نظام بن علي في تأطيرها والتحكم فيها

هنا وجدت ضالتي وأنا أرى ذلك القتيل يشاركني الشقة. وانطلقت اليوميات تحبك نفسها بطريقة مختلفة. يوميات كاتب أعزل في مدينة متوحشة يشاركه الشقة تحت الأرض قتيل قديم.

اقرأ/ي أيضًا: جنس وكَذب ويأس.. الغارديان تنشر مكاشفات مونيكا جونز وفيليب لاركن الغرامية

اليوم أتكور في بيتي مثقلًا بالطمأنينة. اليوميات صارت بعيدة والتخييل صار يملأ النافذة كشبح عظيم يفتح جناحيه. لكن جسدي الذي يرسل إلي إشارات بين حين وحين تجعلني أفيق من نومي لأعد وخزات الكلية تجعل اليوميات تطل من تحت جناح وطواط التخييل الضخم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رواية "1900" ألساندرو باريكو.. حين يأتي العالمُ إليك

البحث عن مفضي الجدعان الجديد