07-سبتمبر-2016

هل اسم عالم الرياضيات الشهير إقليدس اليوناني (300 ق. م) الذي فتح أبواب علم الهندسة على مصراعيه أمام التطور البشري كان يعني المفتاح أو مذلل الصعاب والعوائق؟

اللغة كالبشر تطوّرت عبر عملية طويلة اشتركوا جميعهم في تطويرها، ونحن اليوم ننطق الكلمات ونتوارثها ببساطة، لكن كم كانت رحلة شاقة وشيقة تلك التي قامت بها الشعوب الحية في توليد مفرداتها! 

كم كانت رحلة شاقة وشيقة تلك التي قامت بها الشعوب الحية في توليد مفرداتها! 

سنقوم في هذه الدراسة بالاشتغال على حفرية لغوية شيّقة، اشتركت لغات العالم كلها في اشتقاقها، وهي كلمة "القفل والمفتاح"، وما أثار فضولي للغوص في هذه الكلمة هو اجتهاد بديع للباحث في اللغة السريانية بطرس شابو، توصل فيه إلى أن كلمة Close التي تعني أغلق أو إغلاق أو مغلق أصلها من اللغة السريانية "قليذو" ܩܠܺܝܕܳܐ، التي نعني بها "المفتاح"، وهي الجذر لكلمة "مقاليد، وقلادة"، ومنها العبارة الشهيرة المستخدمة في السياسة "استلم فلان مقاليد الحكم"، أو "تقلد فلان منصب الرئاسة"... إلخ.

اقرأ/ي أيضًا: تاريخ اسم عُمر وأصل العُمرة

يقول الباحث شابو: "كلمة قليذو كلمة سريانية بحتة حتى أننا بلغتنا السريانية، أو لهجتنا إن صح التعبير، نقول (مَقلد أو ترعو) أي أغلق الباب بالمفتاح، ليس ذلك فحسب بل إن كلمة قليذو معناها ليس مفتاحًا فقط، بل هي القفل والمفتاح، أو الإغلاق والفتح تمامًا، وتعبّر، زيادة على ذلك التعبير، عن شيء محكم الإغلاق ويلزمه مفتاح لفتحه، ومنها جاءت تسمية "القلادة" التي توضع في العنق، وإلى اليوم نقول في عاميتنا السورية قلّوز أو قلّيز للحلقة الموضوعة على عنق الدابة، وأيضًا نقول كلمة المشقليزي وهي أصلها ܡܬ̣ܩܠܝܙܳܐ = مثقليزو أو مثقليذو يعني المغلق أو الحلقة الموضوعة على الباب لتعليق الثياب، وهذه الكلمة دارجة في سوريا دون أن يعرفوا معناها.

يتابع الباحث شابو خوضه في كلمة قليذو ليصل بنا إلى استنتاج مدهش، وهو أن قليذو التي تلفظ تمامًا بالذال انتقلت إلى اللغة اللاتينية، حيث إن اللاتيني لا يلفظ القاف فاستبدلها بالكاف، ولا يلفظ أيضًا الذال فاستبدلها بالزين فأصبحت: قليذ = كلوز = close = يغلق. وبالتالي فإن الكلمة باتت واضحة، قليدو من قلادة أو طوق أو حلقة، أو أي شيء محكم الإغلاق يلزمه مفتاح.

لفتني جدًا هذا الاشتغال على كلمة "قليذو" لأن هناك كلمة كثيرًا ما كان نطقها يثير استغرابي، يستخدمها العاملون في مهنة التمديدات الصحية، وأنا كنت منهم أيام الصبا، حيث يقولون: قَلْوَزَ البوري (أي الأنبوب)، أو البوري مقلْوَز؛ وذلك يعني أنه تم فتح أسنان في رأس البوري ليصبح بالإمكان وصله ببوري آخر، وهو فعل القلوزة. هكذا فإن الكلمة ستدلل على القفل والمفتاح؛ الإغلاق، ثم "القلوزة" لوصل شيئين ببعض، أي إغلاقهما على بعض.

كانت لغة العرب الخازن الأمين لكل لغات الأرض، ويمكننا أن نجد كلمات لشعوب، تتبعها يكشف تاريخ تزاوج اللغات

اقرأ/ي أيضًا: العراق وسوريا.. لعنات الإمبراطوريات الأبدية

قليذو في اللغة العربية والسبئية

النتيجة التي خلص إليها شابو مهمة جدًا في الميدان الذي أعشقه؛ ميدان الحفريات اللغوية، ولأنه شكك بأن يكون لهذه الكلمة جذر واضح في اللغة العربية أثار فضولي للبحث عنها في المعاجم، فوجدت أن الاشتقاقات الموجودة في اللغة السريانية نقلت بحذافيرها إلى اللغة العربية، لا بل إن هذه الكلمة سافرت إلى بقاع الأرض جميعها، وزيادة على ما تفضل به الباحث شابو وجدت أن أصحاب المعاجم اللغوية الكبرى اهتموا بالكلمة، ومنهم ابن منظور الذي يقول حرفيًا: قيل: الإِقْليدُ مُعَرَّبٌ وأَصله كِلِيذ، وقال أَبو الهيثم: الإِقْلِيدُ المِفْتاحُ وهو المِقْلِيدُ، والمِقْلدُ والإِقْلادُ: كالإِقْلِيدِ ، لا بل إن صاحب "اللسان" يضيف إن الإِقْلِيدُ: المِفتاحُ، يمانية؛ وقال اللحياني: هو المفتاح ولم يعزها إِلى اليمن؛ واستشهد بقول تبَّعٌ حين حج البيت: وأَقَمْنا به من الدَّهْر سَبْتًا، وجَعَلْنا لِبابِهِ إِقْلِيدَا.

لافت حقًا أن تشترك كلمة الإقليد في اللغة السبئية القديمة والسريانية والعربية في تسمية المفتاح إقليدا، أو قليذو أو كليذ، ومنها كان المِقْلادُ بمعنى: الخِزانة، وجمعها المَقالِيدُ الخَزائِنُ، وكان هناك استخدام نادر لكلمة الإِقْلِيدُ في اللغة العربية يكشفه لنا ابن منظور وهو: العُنُقُ، والجمع أَقْلاد. ولأن من معاني الإقليد عملية فتل الحبل أيضًا جاءت كلمة القلادة لما يوضع حول العنق. يقول العالم اللغوي ابن فارس صاحب "مقاييس اللغة": القاف واللام والدال أصلانِ صحيحانِ، يدلُّ أحدهما على تعليق شيءٍ على شيء وليِّه به.

لنلاحظ هنا أن أصل الكلمة كما كشف لنا ابن منظور هو كِليذ، بالزاء والكاف أي تلفظ بلفظ الجيم المصرية، وهي ذات الكلمة السريانية تمام "كليذو" أو "قليذو"، وهي فعلًا ذات كلمة كلوز بإبدال الواو والياء وهو أمر معروف وشائع في اللغات القديمة. وفي لهجة سريان سهل نينوى، وبالذات من بغديدا في العراق، يلفظون كلمة "غذيلو" الغين بلفظ G، بمعنى مفتاح، كما يشير أحد أبناء المنطقة في تعليقه على ما كتبه الباحث السرياني بطرس شابو، وفي كلمة غذيلو هذه نجد فعل القلب والإبدال في حروف الكلمة التي تدل على ذات المعنى، وهو ما يجري في رحلة الكلمات عبر الجغرافية والعصور والألسن.

لذلك قمت بعمليات إبدال الأحرف المعروف في كل اللغات التي تشكل أهم عامل في تنوع المفردات في أي لغة وهو ما أصابني حقًا بالدهشة، فكون حرف القاف يمكن أن يقلب كاف أو جيم أو G أو غين، وحرف الدال يمكن أن يبدل بالذال وكذلك الراء بالزاي وجدت أن كلمة في معاجم اللغة العربية قلد/قلذ، كلد/كلذ/ كلز، جلد/ جلذ/ جلز... تدل على معنى الشدة والصلابة والإحكام ووصل الشيء بالشيء، وهو أمر مدهش حقًا، وهذا حقيقة يأخذنا إلى عوالم من السحر الذي يقف وراء التنوع في المفردات التي كلما كثرت في لغة من اللغات كانت أقدر على إعطائها ثراء في التعبير، وهذا أهم ما يميز لغة العرب اليوم كونها كانت الخازن الأمين لكل لغات الأرض، إذ يمكننا أن نجد كلمات لشعوب يمكننا تتبعها لمعرفة تاريخ تزاوج اللغات مع بعضها لجعل البشر أكثر قدرة على التعبير.

عمليات إبدال الأحرف في كل اللغات تشكل أهم عامل في تنوع المفردات وثرائها في أي لغة

كلمة قَلَد تقال على تليين الشيء القاسي وفتله "كما نفعل بفتلنا للمفتاح في الباب كي يفتح"، تقول العرب: قلد الحَديدَةَ: رَقَّقَها ولَواها على شيءٍ، وسِوارٌ مَقْلودٌ وقَلْدٌ، بالفتح: مَلْوِيٌّ.

اقرأ/ي أيضًا: تاريخ كلمة "شلونك" (1- 2)

بعملية إبدال الحروف وقلبها لكلمات مثل قلد/قلذ، كلد/كلذ/ كلز، جلد/ جلذ/ جلز، نجد أن كلمة جلد تدلُّ على قوّةٍ وصلابة. والجِلْدُ "بكسر الجيم" معروفٌ، وهو أقوى وأصلَبُ ممّا تحته من اللحم. واللافت أيضًا أن الكلد وهي كلمة تدل على الصَّلابة في الشيء، والأرض الصلبة مثل الجلد وتعني حرفيًا ما غلظ من اللحم وتغزز، والعرب تقول للرجل الصلب القوي الجَلد، مثل الرجل الكَلد والمكلند الشديد الخلق العظيم الجَلَد، وهي الأرض الصُّلبة، وهنا يمكن القول إن الجلد هو إحكام إغلاق اللحم بهذه الطبقة التي تحميه تمامًا من محيطه كمن يغلق الباب ليحمي نفسه، الجلذاء "بالذال" هي الحجارة، وقيل: هو ما صلب من الأَرض، الجَلْز "كالقلد": الطيّ والليّ، وكلّ عقد عقدته حتى يَستدير، فقد جَلَزْتَه. ونجد معاني "قلد" أيضًا في كلمة "الكَلْز" كما يقول ابن فارس في "مقاييس اللغة": تعني: الجمع. يقال: كَلَزْت الشيء وكلَّزته، إذا جمعتَه.

قليذو في اللغات الهندو-أوروبية

نجد في اللغات واللهجات الهندو-أوروبية الجذر السرياني لكلمة "قليذو" حاضرًا بلا أدنى شك في كلمات تدل على ذات المعاني السابقة، فكلمة الإغلاق والمفتاح نجدها في اللغة اللاتينية في كلمة claudo "قلاود" وocclude "أوقلودو" بمعنى أغلق وأطبق، وفي اللغة الإيطالية occlusion "أوكلزيونيه" بالإيطالية تعني أقفال وهي في اللغة الإنجليزية occlusion أكلوجِن، بمعنى إقفال وانسداد وإطباق الأسنان، ويذكرنا لفظ هذه الكلمة بفعل "الكز" العربية والسريانية نقول "كز على أسنانه" أي أطبقهما بشدة، والطريف في اللغة أيضًا فعل اللزّ المستخدمة اليوم في عاميتنا كما في عبارة "لز عليك شوي"، وهي كلمة عربية فصيحة أيضًا إذ يعني في المعاجم لَزَّ الشيءَ بالشيء: ضمه إليه بشدة (راجع لسان العرب شرح لزز) ولَزَّ به الشيءُ أَي لَصِقَ به وأكثر من ذلك فإن اللَّزُّ كما تقول العرب لزوم الشيء بالشيء بمنزلة لِزازِ البيت، وهي الخشبة التي يُلَزُّ بها البابُ وفي القامس المحيط لَزَّهُ لَزًّا ولَزَزًا: شَدَّهُ، وألصَقَهُ، واللَّزَزُ المَتْرَسُ. وبذلك يكون اللز لضم شيئين لبعض كما في ضم الأجساد لبعضها والكز إطباقهما على بعض كما في حالة الأسنان.

عبر التطور اللغوي لهذه الكلمة وانتقالها من دلالتها التعبيرية إلى دلالتها التجريدية نجدها ارتبطت بشكل خاص بمفاهيم السلطة والحكم، تقلد منصبه، مقاليد السلطة، قلده الخليفة أو الرئيس منصب... أي أن مفتاتيح السلطة وخزائنها أصبحت بيده.

في اللهجات المنتشرة في شرق أوروبا وروسيا نجد أن كلمة كليوش الروسية (кпюч)، وهي أيضًا في اللغة الليتوانية والسلوفينية والبيلاروسية وغيرها من تلك اللغات واللهجات التي تعني أيضًا المفتاح أو إزالة العوائق، فاستخدامها أيضًا يكون بمعنى مجازي بمعنى "مفتاح الحل" كما هو الحال في اللغة الروسية. ولفظ كلوش هو ذاته قلوز أو قليذ بإبدال الزاي شين. ولنلاحظ أن عرب الأندلس كانوا يطلقون على مدينة تولوز الفرنسية اسم طولوشه بإبدال الزاي شين. اللافت أنه في اللغة اللتوانية نجد كلمة kliuč ولفظها "قلو" بمعنى العوائق والحواجز.

هل اسم عالم الرياضيات إقليدس، الذي فتح أبواب علم الهندسة على مصراعيه، كان يعني المفتاح أو مذلل الصعاب والعوائق؟ 

هذه الحفريات اللغوية تشير إلى أن كلمة قليذو التي تعني القفل ومفتاحه في اللغة السريانية تماما كما نقول "ذهبت لأشتري قفلًا للباب بمعنى القفل ومفتاحه" نجدها تتألف من مقطعين وهما كلو+ لوز = CLOSE. وبالعودة إلى الكلمة اللاتينية claudo "قلاود" وocclude "أوقلودو" بمعنى أغلق وأطبق، وفي اللغة الإيطالية occlusion "أوكلزيونيه وقرب معانيها من المعاني العربي في كلمات مثل كز وكلز وقز "الانقباض في الوثب" وقلز وكلها الانقباض والتضيق والإطباق وقلد التي تعني المفتاح وتطويع الشيء الصلب والقاسي وفتله ولفه، نعرف تمامًا المعنى السحري لهذه الحروف القليلة في التعبير عن إزالة العوائق أو فتح الشيء المسدود "كفتح الباب بمفتاح" وانتقالها إلى المعنى المجرد ليصبح إيجاد المفاتيح للحلول وتقلد مفاتيح السلطة.

أتساءل في نهاية هذه الدراسة هل اسم عالم الرياضيات الشهير إقليدس اليوناني (300 ق.م) الذي فتح أبواب علم الهندسة على مصراعيه أمام التطور البشري كان يعني المفتاح أو مذلل الصعاب والعوائق؟ 

اقرأ/ي أيضًا: 

قريش جاءت من سوريا

القرابين التي تذهب هباء