09-أغسطس-2016

علي شيرازي/ إيران

في كتاب "المطر والسحاب" نقل العالم اللغوي الشهير "ابن دريد" عن مجلس جمع رسول الله مع أصحابه "إذ نشأت سحابة، فقالوا: يا رسول الله، هذه سحابة، فقال: كيف ترون قواعدها؟ قالوا: ما أحسنها وأشد تمكنها! قال: وكيف ترون رحاها؟ قالوا: ما أحسنها وأشد استدارتها! قال: فكيف ترون بواسقها؟ قالوا: ما أحسنها وأشد استقامتها! قال: كيف ترون برقها: أوميضًا أم خفوًا، أم يشق شقًا؟ قالوا: بل يشق شقًا، قال: فكيف ترون جونها؟ قالوا: ما أحسنه وأشد سواده! فقال صلى الله عليه: الحيا، فقالوا: يا رسول الله ما رأينا الذي هو أفصح منك، فقال: وما يمنعني، وإنما أنزل القرآن بلساني لسان عربي مبين.

كأن اللغة العربية كانت حصيلة مدهشة لامتزاج اللغات القديمة جميعها 

ما يهمنا هنا هو سؤال الرسول التالي لصحبه: "كيف ترون جونها؟ يسألهم عن لونها وحالتها وهي من المرات النادرة -على ما أعتقد- التي تأتي فيها كلمة الجون بمعنى اللون ووصف الحالة، وكأن رسول الله يقول لمجيبه "ش جونها/ ش لونها أو تشهكونيه"، ليخلص الرسول إلى إجابته عن أن هذه الغيمة غيمة مطر وحياة.

اقرأ/ي أيضًا: "الفاروق" لقب المسيحيين السريان للخليفة عمر

هذا يقودنا للغوص في بطون المعاجم العربية وفيها نجد أن كلمة الجون هنا، هي ذاتها جونو/كونو/كونيه "بلفظ الجيم المصرية" في اللغات القديمة، والتي تعني "اللون" في اللغة السريانية و"الحال واللون أيضًا" في اللغة الفارسية القديمة، كما ذكرنا سابقًا.

ولكن المدهش حقًا في معاني هذه الكلمة أن لها في لغة العرب فضاء رحبًا يحتضن أكثر من معنى، ومنها معانٍ لا نزال نجدها إلى اليوم في اللغة اللاتينية، وكأن اللغة العربية كانت حصيلة مدهشة لامتزاج اللغات القديمة جميعها.

يقول ابن فارس في معجمه "مقاييس اللغة" شارحًا كلمة "جَوْنُ": الجيم والواو والنون أصلٌ واحد. وقد زعم بعض النحوييِّن أنَّ الجَون معرّب، وأنه اللون الذي يقوله الفُرْس "الكُونَهْ" أي لون الشيء. قال: فلذلك يقال الجَونُ الأسود والأبيض. لكن ابن فارس لا يعترف بهذا الربط ويقول إن: "هذا كلامٌ لا معنى لـه".

وحتى لو جاء رفض هذه النظرية من قبل عالم لغوي كابن فارس، فإن وجودها في لغات أخرى أقدم من الفارسية وهي اللغة السريانية، يدلل على أنها مأخوذة في الأصل من السريانية وليس من الفارسية، فكلمة "كونو" في اللغة السريانية تعني اللون وتلفظ "الكاف فيها جيم مصرية". وهو ذات المعنى في الفارسية القديمة أما اليوم فكلمة "كونيه" تعني الحال فيما كلمة "اللون" هي باللغة الفارسية "رنگ" ( لفظ ك جيم مصرية)، والطريف أن الفارسية أخذتها من اللغة الآشورية فاللون فيها "رنكة" (لفظ الكاف جيم مصرية).

المثير حقًا أن كلمة الجَوْنُ في اللغة العربية حملت معاني غريبة وعجيبة نجدها في الكثير من اللغات العالمية، ومنها ما زال مستمرًا إلى اليوم، فهي تعني اللون كما في الفارسية والسريانية، إذ جاء في لسان العرب لابن منظور الجَوْنُ: هو اللون الأسود أو الأحمر الخالص أو الأسود المشرب حمرة، والجَوْنُ أيضًا هو: اللون الأبيض، وهو من الأضداد كما يقول العالم اللغوي الجوهري، أي أنها من الكلمات التي تحمل المعنى ونقيضه أيضًا. نقرأ في شرح ابن منظور لكلمة "بيض" ما يلي: يقال للأَسْودَ أَبو البَيْضاء، وللأبْيَض أَبو الجَوْن.

تقول العرب إن الشمسَ لَجَوْنةٌ، يعني أَنها شديدةُ البريقِ والصَّفاءِ؛ وهنا يأتي المزج البديع بين اللونين الأبيض والأسود في العربية

وأَبو الجَوْن أيضًا: كُنْية النَّمِرِ. وهذا المعنى نجده في الاسم القديم "سرجون أو زرجون"، وهو اسم حصل الملك الأكادي العظيم "شروكين" الشهير باسم سرجون الأكادي، مؤسس أول إمبراطورية في التاريخ البشري، فهذا الاسم يعني باللغة الأكادية "الملك الصادق المكين الثابت"، كما يقول فوزي الرشيد في كتابه "سرجون الأكادي" (ص 27)، كما يعني في مصادر أخرى "الملك الأسد"، لكني أرى بشكل لا لبس فيه أن كلمة شروكين هي ذاتها سرجون بقلب السين شين أو زاي والشين جيم شروكين سروجن. 

اقرأ/ي أيضًا: تاريخ كلمة "مرحبا"

وبالعودة إلى كتاب "المزهر في علوم اللغة" للسيوطي فصل إبدال الحروف في العربية ص 1/460، يقول ابن فارس: "من سنن العرب إبدال الحروف، وإقامة بعضها مقام بعض"، وهذا في الحقيقة لم يكن سنة عربية فقط، بل نجدها بكل وضوح في اللغات الأقدم، فالشين يمكن أن تقلب سينًا أو زايًا، والجيم يمكن أن تقلب حاءً أو كافًا أو ياءً... إلخ. 

فمثلًا نجد أن اسم "سرجن، سرجون/ شركن شروكين" في اللغة الفارسية يعني لون الذهب، فـ"زَرَجُون" تتألف من مقطعين، زر تعني ذهب، و"جون" اللون. وفي لغة العرب الماء الصافي يَسْتَنقِع في الجبل، كما أنه اسم من أسماء الخمر (راجع شرح كلمة زرجن في لسان العرب).

ولكن أجمل المعاني التي يحملها اسم "جَون" هو أنه من أسماء الشمس، وهو ما يمكن إضافته إلى اسم سرجون مؤسس إمبراطورية الشمس العظيمة التي جمعت البلاد التي تعبد إله الشمس القديم، ففي لغة العرب الجَوْنُ الأَبيض، والجمع من كل ذلك جُون (ومفرده جُونةِ)، بالضم، فالجَوْناءُ:اسم من أسماء الشَّمْسُ، والجَونة: عين الشمس.

تقول العرب إن الشمسَ لَجَوْنةٌ، يعني أَنها شديدةُ البريقِ والصَّفاءِ؛ وهنا يأتي المزج البديع بين اللونين الأبيض والأسود في لغة العرب، فالجَوْنةُ الشمسُ لاسْوِدادِها إذا غابت، ولبَياضِها وصَفائِها في حالتها المشرقة، يقال أيضًا إن الشمس جَوْنَةٌ بيّنة الجُونَةِ. وفي لغة العرب أيضًا التَّجَوُّن تَبْييضُ بابِ العَرُوس، والتَّجوُّنُ أيضًا تَسْويدُ باب الميت. والجون هي القناديل التي تنير ظلمة الليل "راجع شرح كلمة جلذ في مقاييس اللغة لابن فارس".

واللافت أن اسم جون أو يون أو يوهان أو يونيه أطلق على الشهر السادس من أشهر السنة، وهو شهر حزيران الذي يعتبر يوم 21 منه هو يوم الانقلاب الصيفي، وهو أطول يوم في العام وفيه يكون أكبر ظهور للشمس، وأيضًا نجد أن هناك مدنًا تسمت بجون مثل مدينة "جونيه" اللبنانية، والتي يعني اسمها الشمس شديدة الصفاء.

كانت رحلة شيقة تلك التي خاضها الإنسان عالم الكلمات وعبوره بمعانيها من المعنى المحسوس إلى المجرد

من كل ما سبق نجد المعاني السحرية لكلمة "جون أو كونو" التي تعني اللون والصفاء والنقاء والسواد والاحمرار، أي أنها تأتي تعبيرًا واضحًا وصريحًا عن حالة الشيء سواء كان شخصًا أو طقسًا. وعليه فإن كلمة الترحيب "شو لونك" تقال بهذه الصيغة لأن القدماء كانوا يستدلون على صحة الإنسان من لون وجهه، فالأصفر مثلًا دلالة المرض، والشديد الاصفرار مصاب بفقر الدم، والوردي أو المتورد دليل العافية، والأحمر القاني غاضب، والمائل للزرقة يعاني من ضغط مرتفع أو أزمة قلبية، والأسود الشاحب في وضع حرج، تمامًا كما كانوا يستدلون على حالة الطقس من لون الشمس وانعكاسها على الغيوم أو لون الأفق، لذلك كانت صيغة الاطمئان عن الشخص من خلال اللون الذي يدل على المرض أو الصحة والانبساط أو الغضب.

اقرأ/ي أيضًا: تاريخ كلمة "لي لي ليش" وحقيقة معبد "لالش" الأيزيدي

هذا ما نجده بكل جلاء في كتاب "المطر والسحاب" لابن دريد، حيث نقرأ فيه أخبارًا كثيرة في وصف حال السماء والغيوم للاستدلال على طبيعة المطر القادم، وفيه يصف الغيوم بالنساء الجميلات الصافيات، أو الحوامل، حسب حالتها، ونجد ذلك أيضًا في أسماء المطر والغيوم في كتاب "السحاب والمطر وكتاب الأزمنة والرياح" لأبي عبيد القاسم بن سلام "224هـ"، وكتاب المطر لأبي زيد الأنصاري.

لذلك نرى أن من العبارات المعروفة اليوم بين العامة هي: شلونك طاب لونك "بمعنى ليكلّلك تاج الصحة". أو شلونتش ما يخبث لونك: بمعنى أتمنى أن أرى لونك نضرًا ويبعد عنك الخبث. وهكذا صارت كلمة "اللون والجون" مع تطورها هي ذاتها "حال" الإنسان وحال "الطقس"، خلال رحلة الإنسان الشيقة في عالم الكلمات وعبوره بمعاني الكلمات من المعنى المحسوس إلى المعنى المجرد.

اقرأ/ي أيضًا:

"الله الصمد".. من نقوش أوغاريت إلى القرآن الكريم

هناهين الأعرس وزغاريدها.. طقوس الغواية ولهيب الحرب