18-يونيو-2016

المؤرّخ الكتالاني جوردي كانال

بعْدَ اللحظات المُشَوّشَة الّتي عاشتها كتالونيا على خلفية الانتخابات البرلمانيّة، الّتي شهدتها في 27 أيلول/سبتمبر 2015، في حينها وصلَ إلى أيدينا وثيقة تاريخيّة كاملة، وفي غاية الأهمّية حول تاريخ كتالونيا في 300 صفحة. 

"تاريخ الحد الأدنى لكتالونيا" يصحبنا إلى جميع المعالم التي تميز الكيان الكتالونيّ

كتاب "تاريخ الحد الأدنى لكتالونيا" والّذي يصحبنا إلى جميع المعالم السياسيّة، التاريخيّة، الاقتصاديّة، الثقافيّة، والاجتماعيّة، أيّ منذ بداية نشوء كتالونيا كـ"اسم" و"جماعة بشرية" داخل شبه الجزيرة الإيبيريّة، حتى شهر آب/أغسطس الماضي عام 2015، أيّ قبل الانتخابات البرلمانيّة بشهر واحد.

اقرأ/ي أيضًا: نيرودا وماركيز.. قصة دردشة معلنة

كلّ ذلك ضمن إنجاز "الحد الأدنى لتاريخ كتالونيا" الذي قام به البروفسور والمؤرّخ الكتالاني جوردي كانال، مدير أكاديميّة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعيّة في باريس. جوردي كانال استطاع أن يُشرِّحَ لنا تاريخ جماعة بشريّة بدراسة طبيعيّة وبشكل عاديّ، واضعًا أمام عينيه أهمّية ما يتمّ التلاعب به من قبل الساسة، وخصوصًا داخل ذلك الصراع بين الحكومة الكتالانيّة في السنوات الأخيرة والحكومة المركزيّة الإسبانيّة في مدريد. وهكذا تسري الأحداث داخل الوثيقة، كشريط مصور، يبدأ منذ عصر "العلامة الإسبانية"، أو ما يسمى بمرحلة "حدود الإمبراطورية الكارولنجية" في القرن التاسع والعاشر.

داخل تلك الإمبراطوريّة، تحديدًا في الجزء الشمالي المتاخم لفرنسا، التي ستسمى فيما بعد "كتالونيا العجوز" تظهر هويّة خاصّة تدعو إلى اسم جديد لها، لتتحول إلى "كتالونيا الجديدة". في العرض السابق، الواقع بين أيدينا لم يخرج المؤرّخ من السّياق الاسمي والجغرافي لبدايات كتالونيا الّتي قسّمها أيضًا أربع محافظات/مقاطعات (برشلونة، تارّاغونا، جيرونا، ليريدا)، ثمّ يُفرِّغ حلقة كاملة للحديث عن التأثيرات الّتي حصلت خلال قيام كتالونيا "الجديدة" باحتلال المقاطعتين المعروفتين حاليًا باسم فالنسيا وجزر المايوركا، إضافة إلى سيردينيا الإيطالية. 

وذلك في عملية التوسع التي قامت بها كتالونيا باتجاه المتوسط في القرن الثالث عشر والرابع عشر، ومن أهم تلك التأثيرات أن كتالونيا تركت لغتها في كلا المقاطعتين، ولذلك حتّى يومنا هذا تُعتبر اللغة الكتلانيّة في مايوركا اللغة الأم وليست اللغة الإسبانية، وفي الحقيقة هي واحدة من اللهجات العاميّة الكتلانيّة وتسمى "مايوركين".

لكن في الحد "الأدنى لتاريخ كتالونيا" لا يُطرح هذا الإشكال بعمق، بل يناقش أكثر شعور المايوركيين على أنهم كتلان لا يختلفون عن إخوتهم الكتلان في كتالونيا الحاليّة. ومن الواجب ذكره أنّ كتالونيا في هذه المرحلة كانت مقاطعة لها استقلالها الذاتي ولا ننسى كتالونيا الشمال (منطقة فرنسية حاليًا)، انطوت في ذلك الوقت تحت لواء مملكة أراغون، ليست هي فقط، بل عدة مقاطعات صغيرة في الشمال.

تم تسليم التاج الملكيّ لمملكة أراغون في القرن السادس عشر، بعد استرجاع شبه الجزيرة الإيبيرية من العرب المسلمين

ثمّ ينتقل الكتاب إلى أزمة نهايات القرن الخامس عشر، والتي يُطلق عليها اسم "اتحاد السلالات الحاكمة والتاج الملكي مع قشتالة"، وهي بداية اندماج كتالونيا مع المحيط الجغرافي، وذلك كان على يد الملوك الكاثوليك، عبر عقد قران الملك فرناندو (مملكة أراغون وكتالونيا) على الملكة إليزابيث (مملكة قشتالة)، لسببين رئيسيين، الأول هو أن مملكة أراغون كانت تعاني من أزمات قاتلة، بينما مملكة قشتالة كانت تعيش حالة ازدهار. والسبب الثاني في توحيد قوة المملكتين في شبه الجزيرة الإيبيرية، هو لطرد العرب من الجنوب الأندلسي وإنهاء وجوده لتأسيس المملكة الكاثوليكيّة على أرض شبه الجزيرة الإيبيريّة. ويجب التنويه هنا أن قشتالة هي أم اللغة الإسبانيّة المعروفة اليوم، أي أن اسمها التاريخي "اللغة القشتالية" هي تلك لغة ثربانتس والطواحين الهوائية وكالديرون دي لا باركا.

اقرأ/ي أيضًا: تاريخ "الحنفية".. صراع اللغة والفقهاء

ونستمر مع ذلك الشريط المصور، في ذات الموضوع السابق عن السلالات الحاكمة، حيث تم تسليم التاج الملكيّ لمملكة أراغون في القرن السادس عشر، أي بعد استرجاع كامل شبه الجزيرة الإيبيرية من العرب المسلمين، واستمر ذلك حتى القرن الثامن عشر. ثمّ ظهور الدولة الإسبانية في القرن التاسع عشر، وجمهوريات ما قبل الثورة الإسبانية والحرب الأهلية. وطيلة الفترة السابقة كانت كتالونيا مقاطعة مستقلة ذاتيًا داخل مملكة أراغون أولًا، ثم داخل المملكة الإسبانيّة "ثمرة زواج الملوك الكاثوليك". ثمّ إعلان الدولة الكتلانيّة الفيديرالية داخل الجمهوريّة الإسبانيّة الأولى عام 1931. لتأتي بعد ذلك الثورة الإسبانية التي كانت في الحقيقة ضد الجمهورية الإسبانيّة الثانيّة، إلا أن ما هو متعارف عليه أنها حرب أهليّة إسبانيّة فقط، وذلك بسبب استغلال الفاشيين بقيادة الجنرال فرانكو وريفيرا أحداث الثورة، وقاما بانقلابات على الجمهورية الإسبانيّة الثانيّة، التي اعتبرت أفضل حكومة مرت على إسبانيا بسبب تقدميتها، وقام الناس بثورة عليها، فقط لأنهم كانوا ينتظرون المزيد. 

 

خلال أحداث الحرب الأهليّة الإسبانيّة 1936-1939، كان لكتالونيا دور كبير في مقاومة الفرانكويّة الغوغائيّة، وكان الحزب الاشتراكي الكتالاني في حينها مرجعًا للمعارضة التي وقفت ضد الزحف الفاشيّ العسكريّ، ولكن في النهاية سقطت كتالونيا بيد فرانكو ولذلك سببان رئيسيان الأول هو دعم معسكر الفاشية متمثلًا بهتلر وموسوليني لجيش فرانكو، والسبب الثاني هو أخطاء ستالين "الدكتاتور السوفيتي"، والتي أودت بالمقاومة الشعبية في كتالونيا إلى الهاوية وهذا ما ذكره أيضًا جورج أورويل في كتابه "الحنين إلى كتالونيا" الذي يسرد فيه تلك الحقبة من الحرب الأهليّة الإسبانيّة في كتالونيا، كشاهد عيان عليها.

وبالتأكيد بعد ذلك، حصدت كتالونيا، كغيرها من المدن الإسبانيّة نتائج الحرب الأهليّة ووقوعها تحت رحمة الدكتاتور الذي رسخ للدولة الفاشيّة الكاثوليكيّة المسيحيّة، ومن تلك النتائج كانت الهزيمة، المنفى، القمع والاضطهاد. كما واجهت اللغة الكتلانيّة بعد سقوط كتالونيا بيد فرنكو أبشع أشكال القمع المتمثلة في منع الكتالونيين باستخدام لغتهم، وإبراز ثقافتهم المختلفة، حتى وصلت اللّغة الكتلانيّة في تلك الفترة إلى لغة شفهيّة. إلا أن فرانكو عمل على تحويل كتالونيا إلى مدينة صناعية بامتياز، في محاولة لإسكات الكتلان عن دكتاتوريته، وفي ذات الفترة استقبلت كتالونيا هجرة كبيرة من الجنوب الأندلس ومن مدن إسبانية أخرى كانت تعاني فقرًا هائلًا، وكانت الهجرة بسبب العمل الذي كان متوفرًا في ذلك الحين في كتالونيا على خلفية ما فعله فرانكو في تحويل المقاطعة إلى بنك مصانع، وهنا يظهر الجيل الذي يسمى بـ "الكتلان الجدد" أبناء زواج مهاجرين والكتلان.

استعاد الكتلان حكومتهم المستقلة بشكل جزئي في عام 1977 بعد سنتين من وفاة فرانكو 1975

استعاد الكتلان حكومتهم المستقلة بشكل جزئي في عام 1977 بعد سنتين من وفاة فرانكو 1975. إلا أن هذا الاستقلال له سلبياته الكثيرة؛ التبعيّة السياسيّة الكاملة، الالتزامات الاقتصاديّة، والتضيق على الكتلان في مناهجهم الدراسيّة، وفرض اللغة الإسبانيّة عليهم بالقوة، عدم الاعتراف حتّى بتاريخ كتالونيا وثقافتها المختلفة، ببساطة كاملة كل قرارات كتالونيا بيد الحكومة المركزيّة في مدريد، فهي مصدر التشريعات في جميع إسبانيا. كل ذلك وأكثر أثّر على الشعب الكتالاني في الانتخابات البرلمانيّة الأخيرة 27 أيلول/سبتمبر 2015 التي اعتبرت ذات حساسيّة عالية بسبب اتخاذ الأحزاب الكتلانيّة قرار إعلان بدء عملية الاستقلال الكليّة عن إسبانيا في حال فوزها في الأغلبية البرلمانية.

اقرأ/ي أيضًا: لم كان بورخيس يكره كرة القدم؟

على الرغم أن الكتاب لا يغطي ما بعد الانتخابات، ولكن ما حدث، هو إعلان في 9 تشرين الثاني/نوفمبر بدء عملية الاستقلال، بعد فوز الأحزاب الكتلانية المطالبة بالاستقلال على الأغلبية في البرلمان الكتالوني، ضمن مشروع تصويت داخل البرلمان.

داخل تلك السرديّة المستوية، لا يهرب جوردي كانال من أيّ مشكلة جدليّة، بل يفتح نوافذ العلاج على مواضيع خاصة جدًا وصغيرة في ذات الوقت كـ استخدام إشارات الهوية الرمزية الكتلانيّة في نشيدها الوطني، والعودة لمناقشة 11 أيلول/سبتمبر (العيد الوطني الكتلانيّ) واختلافات تأويله بين الأحزاب الكتلانيّة. يناقش أيضًا دور فريق برشلونة لكرة القدم "ومهمته الرمزيّة" التي تتعدى كونه نادي فقط. ويتطرق لتكوينات الأغنية الكتلانيّة التي تسمى "نوبا كانسيو" وهي أغنية كتالانيّة ظهرت كتعبير مقاومة ضد فاشية فرانكو، وإسهام تلك الأغنية في بقاء اللغة الكتلانيّة والمحافظة عليها بشكل شفهي.

ويشير الكاتب إلى تطور المعرفة القوميّة الكتلانيّة في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين على أنها قفزات نوعيّة، وبصورة صحيّة، وأنّ تطوّر فكرة "قوميّة" كتالونيا المستقلة تمامًا، ما زالت تواجه تهكمات الدولة الإسبانيّة التي تعتبر أنّ الفكرة "مصطنعة وغير ضرورية".

الكاتب يدلنا على عناصر أساسية لتلك المعرفة: الظروف الملائمة، الاستياء من النظام الدولتي-الوطني الإسباني، وجود نخبة وقيادات في كتالونيا تمتلك الخبرة، ولديها معرفة متميزة بالوقائع، كما لديها الرموز والإشارات المتعلقة بالهوية".

المجتمع الكتلانيّ لديه شعور معرفيّ قوميّ عميق ومختلف بحسب كتاب جوردي كانال

اقرأ/ي أيضًا: لا إبهامَ في "غامض مثل الحياة"

وفي الحقيقة كل ذلك يتمّ تجاهله ويُقلل من شأنه، على الرغم من أنّ المجتمع الكتلانيّ لديه شعور معرفيّ قوميّ عميق ومختلف، ولذلك يقول كانال "إنّ العمليّة الاستقلاليّة لا يمكن أن تكون مُحَللة بشكل سطحي وبسيط، على الرغم أنّ المعطيات التي سأقولها هي حقائق: مواجهة أخطاء الحكومة الكتلانيّة التي استخدمت القوميّة الكتلانيّة كسلاح لتغطية فساد إداراتها. والثانية هي شلل وانغلاق الحكومة الإسبانية من طرف الحزب اليميني الشعبي الحاكم في مدريد. من دون شك يجب البحث عن حل حقيقي، يناسب أولئك الكتلان الذين يحملون المعرفة والخبرة التاريخية بالشعور القومي، وذلك الحل لا يأتي من العدم".

يغلق كانال كتابه، بعد أن يترك كل شيء واضحًا ومكشوفًا، للدراسة والبحث، وكل ذلك في 300 صفحة، يجيب فيها بشتى أنواع المعرفة الإنسانية المتعلقة بكتالونيا كجماعة بشرية، وتكوينها التاريخي، فيغلق لنا باب الأسئلة المطروحة حول ما هي كتالونيا؟ ما علاقتها التاريخية بالمملكة الإسبانية؟ وهل لديها اقتصادها وخبرتها الخاصة؟ وهل تحمل كتالونيا شعوريًا قوميًا مختلفًا وثقافة وتطورًا معرفيًا بين ثقافات شبه الجزيرة الإيبيرية لتطالب باستقلالها؟

اقرأ/ي أيضًا:

موديانو والنافذة التي تشبه المقصلة

نبيل الملحم: أغار من عبد الباسط الساروت