01-أكتوبر-2020

من المناظرة بين جو بايدن ودونالد ترامب (Getty)

لم تكد تنتهي المناظرة الرئاسية الأولى التي طال ارتقابها بين جو بايدن مرشح الحزب الديمقراطي ودونالد ترامب عن الحزب الجمهوري، حتى انتقل الجدل إلى منصات التواصل الاجتماعي وبين روّاد السوشال ميديا، والتعليق على ما جرى بين الرجلين من مناوشات صبيانية في المناظرة الأولى التي تسبق التحضيرات الأخيرة للانتخابات الأمريكية في بداية تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. وقد وصف البعض المناظرة بأنها دليل على تردّي الحالة الديمقراطية في الولايات المتحدة، بينما وجد فيها آخرون مشهدًا تفتقده العديد من الدول التي لا تزال تحت وطأة الاستبداد، ولاسيما في العالم العربي.

وجدت عبارة "إن شا الله" طريقها إلى اللغة الإنجليزية، وقد حصل ذلك في النصوص الإنجليزية منذ القرن التاسع عشر، مع ترجمات السير ريتشارد فرانيسيس بيرتون لحكايات ألف ليلة وليلة

المناظرة التي أدارها الإعلامي المرموق كريس والاس، وهو نفسه الذي أدار المناظرة الأخيرة الشهيرة بين ترامب وهيلاري كلينتون عام 2016، كانت جولة محمومة من السجالات وتبادل الاتهامات والمقاطعة المتكررة أحدهما للآخر، وبدا أن والاس وحده هو من كان صاحب السيطرة والاتزان خلالها. كما لم تخل المناظرة من كلام هاتر من كلا المرشحين، فتارة يطلب بايدن من ترامب أن "يطبق فمه"، ثم ينعته الآخر بأنه "مهرّج كذّاب"، وهي شتيمة خرجت على لسان الرجلين غير مرّة أثناء المناظرة التي رآها الأمريكيون "فضيحة ديمقراطية"، وإن كانت بعض استطلاعات الرأي ترى أن الطرف الفائز فيها كان جو بايدن.

اقرأ/ي أيضًا: عولمة رقائق الذرة.. تاريخ موجز للفطور الأمريكي الحديث

لكن أحد أطرف المشاهد التي أثارت اهتمام المتابعين العرب في المناظرة، هو استخدام بايدن لعبارة "إن شا الله"، بمعناها التهكّمي الذي يدلّ على التسويف غير المنتهي، وربما الكذب والاحتيال، وذلك حين طالبه بالكشف عن سجلاته الضريبية ومصارحة الأمريكيين بشأن الألاعيب الضريبية التي يمارسها منذ فترة طويلة، واستغلاله لقوانين الضرائب لصالحه.

 

 

"إن شا الله" في الإنجليزية

قد تكون عبارة "إن شا الله"، والتي سقطت فيها الهمزة تسهيلًا لكثرة تردادها، هي أشهر العبارات العربية ذات الحمولة الدينية التي يلتزم بها ملايين الناس بشكل عفوي على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم في العالمين العربي والإسلامي. لكنّ هذه العبارة معروفة المعنى، قد اكتسبت معنى آخر ينتهك المبادئ الحواريّة المعروفة، بإيراد الملفوظ على غير معناه، إذ صارت العبارة تحمل معنى يفترق عن معناها اللغوي المباشر المعروف، وباتت بمثابة فعل لغوي مراوغ، يعني "سأفكر بالأمر" أو "يعتمد ذلك على الظروف"، وذلك للتخفف من المسؤولية وحرج الاعتذار المباشر، عبر توظيف عبارة مؤدبة تحيل الأمر كلّه لإرادة الله مع إقرار ضمنيّ بانعدام فاعلية البشر المستقلّة عنها. يتّضح هذا التوظيف مثلًا في أي حوارٍ في البيت، بين الأب وابنه: "بابا، اشتر لي هذه اللعبة لطفًا!"، الأب: "إن شا الله"، بمعنى "ليس الآن"، أو "سأفكر بذلك". وهذا استخدام يكاد يكون شبه مستمرّ في حياتنا اليومية.

وقد وجدت عبارة "إن شا الله" طريقها إلى اللغة الإنجليزية، فظهرت في بعض النصوص الإنجليزية منذ القرن التاسع عشر، مع ترجمات السير ريتشارد فرانيسيس بيرتون لحكايات ألف ليلة وليلة، والتي انتهج فيها سبيلًا حرفيًا إلى أبعد الحدود، محافظًا ما أمكنه ذلك على صيغ التعبير العربيّة غير مكترث بما قد تثيره من غرابة لدى القارئ الإنجليزي. فتراه مثلًا يتحرّى الترجمة الحرفيّة التغريبية، كلمة بكلمة، لعبارات ذات خصوصية عربية خالصة، مثل "لم يذق طعم النوم" أو "ملك الزمان" أو "سمعًا وطاعة" أو "كاد يطير من الفرح". ومن ضمن ما ذهب إليه في ترجمته تلك أنه أدخل العديد من العبارات العربية ونقلها صوتيًا إلى الإنجليزية، فتجد فيها عبارة "بسم الله"، و"الحمدلله"، و"إن شاء الله"، عدا عن اقتراضه بعض الأفعال وإدراجها في الترجمة، مثل الفعل "nakh"، والذي استعمله كمقابل للفعل العربي "أناخ" الناقة، بمعنى "أجلسها وأبركها"، وذلك حسب ما ينقل الأستاذ الدكتور طارق شمّا في كتابه (Translation and the Manipulation of Difference).

لكن "إن شا الله" لم تذع وتشع على ألسنة الناس بالإنجليزية إلا في السنوات التي تلت أحداث 11 سبتمبر، فبدأت تظهر كتعليق متذاكٍ طريف بين الناطقين بالإنجليزية من غير المسلمين، ولاسيما في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد استمرّ منحنى ذيوع العبارة بالصعود بشكل مطرد بعد العام 2003 واحتلال العراق، حيث تفشّت "إن شا الله" بين صفوف الجيش الأمريكي من كافة المستويات، ولم يعد من المستهجن أن يسمع الضابط ردّ بعض الجنود على أمره في بعض الأحيان بقولهم "Inshallah". بل وينقل الكاتب الأمريكي كالين ميرفي في مقال نشرفي مجلة "أميركان سكولار" قول بيتريوس في إحدى المقابلات ما يعني بالعربية: "لن نقول "إن شا الله" هذه المرّة" (This is not an “inshallah” time)، وهو مثال آخر على انتقال العبارة من معناها الأصلي الدالّ على العزم في الأمر، إلى معنى التشكيك والاحتمال وعدم اليقين، حتى في اللغة الإنجليزية، وهو نفس المعنى الذي استخدمه بايدن في معرض تهكمه على ترامب وتشكيكه في نيته الإفصاح عن سجلاته الضريبية.

كما ظهر هذا الاستخدام المراوغ لعبارة "إن شا الله" بالإنجليزية بشكل آخر أكثر وضوحًا وبشكل لا يخلو من العنصريّة والتحامل على العرب والمسلمين، في كتاب كامل بعنوان "إن شاء الله" (God Willing) للعقيد في الجيش الأمريكي إريك نافارو، تحدث فيه عن تجربته في تدريب الجنود العراقيين، والفجوة اللغوية والتواصلية التي كان يشعر بها بسبب ما اعتبره تكرارًا مفرطًا لعبارة "إن شا الله" من نظرائه العراقيين، ما كان كفيلًا بأن يتسبّب له بقدر كبير من التوتّر والامتعاض، ما حداه كذلك إلى موقف ساذج وفجّ، حين اعتمد على هذه العبارة لتكون مفتاحًا لفهم الفجوة الحضارية بين "الغرب" والعالم الإسلامي، وذلك بحسب حوار مع المؤلّف في الواشنطن بوست! (يُذكر أن عدد ضحايا الحرب الأمريكية على العراق منذ العام 2003 قد بلغ حوالي نصف مليون إنسان).

Inshallah.. استيلاء ثقافي وتهديد لغير الأبيض

المفارقة اللافتة في استخدام بايدين لعبارة عربية في مناظرة رئاسية، هي أن هذه العبارة بالتحديد، وبالرغم من شيوعها نسبيًا بين فئات متعلمة من الأمريكيين البيض، إلا أن استخدامها بنسختها العربية أو الإنجليزية لا يخلو من تبعات خطيرة إن تلفّظ بها غير الأبيض، ولاسيما إن كان في حافلة أو في قطار أو طائرة، وكثيرة هي المواقف التي تعرّض فيها مسلمون من أصول غير أوروبية، خاصة في الولايات المتحدة، إلى التمييز العنصري أو الإهانة أو حتى الاعتقال والتحقيق والحرمان من السفر لمجرد نطق كلمات بالعربية، بل وعند نطق هذه العبارة بالتحديد.

اقرأ/ي أيضًا: حقي صوتشين: هناك من يربط العربية بالدين فقط

ففي نيسان/أبريل 2016 مثلًا تعرض طالب مهاجر من أصول عراقية، للتحقيق من قبل عناصر من مكتب التحقيقات الفيدرالي، بعد أن صدرت منه هذه العبارة وهو يتحدّث على الهاتف قبيل إقلاع الطائرة التي كان على متنها. لقد كانت العبارة كفيلة بأن يسأله المحققون: "كن صريحًا معنا وأخبرنا ما الذي تحدثت به عن "الشهداء"؟"، وقد تكررت مثل هذه الحوادث غير مرة في السنوات الأخيرة أثناء رئاسة ترامب وتصعيده للخطاب اليميني الشعبوي المتطرف المعادي للاجئين والأقليات، وللمسلمين على وجه الخصوص. فالعربية بذاتها ما تزال مصدر تهديد محتمل يترصّد له موظفو الأمن في المطارات الأمريكية، وسماعها أو حتى رؤيتها على غلاف كتاب مسوّغ كافٍ للشكّ والريبة والتعسّف في التحقيق والتفتيش والاحتجاز أو حتى المنع من السفر. فرهاب الإسلام حقيقة حاضرة في الولايات المتحدة الأمريكية، وليس متخيّلًا أن تنتهي قريبًا حتى لو وصلت إدارة جديدة إلى البيت الأبيض مكان ترامب.

سيستمر التعليق والتندّر على استخدام بايدن المجّاني لعبارة عربية رائجة، وسيدغدغ ذلك حماسة كثيرين، تمامًا كما حصل حين عمد بيرني ساندرز إلى استخدام العربيّة في حملته الانتخابية، لكن الواقع اليومي الذي تعيشه الأقليّات في أمريكا، ولاسيما الجاليات العربية يحكي قصّة أخرى عنوانها التمييز والتحامل والخوف المستمر، حتى من قول "إن شا الله". 

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

جائحة كورونا تغزو اللغة.. كلمات جديدة تحيّر ممارسي الترجمة

الأدب "التركي" بالإنجليزية.. نادٍ لطلاق اللغة الأم؟