12-يونيو-2019

وجبة فطور أمريكي (jujucatering)

لم أشعر قط بحاجة ملحّة للفطور، ولا أحتاج لأبدأ يومي سوى تناول القهوة أو الشاي بالميرامية. لكن لم يحصل أن اشتهيت شيئًا على الفطور سوى "الشاورما"، وتحديدًا شاورما اللحم بخبز القمح الرقيق (الشراك)، بإضافة شرائح البصل والبندورة وصلصة الطحينية السائلة، وتسخينها على الحماصة ولفها بالورق الرخيص. لكن هذه الرغبة كانت تصطدم دومًا بمحاذير الصحّة والحمية والرضوخ المريح للصورة السائدة عن الفطور "السليم"، رقائق الذرة أو الشوفان مع الحليب أو اللبن، والذي بات الفطور المعتمد لكثير من الناس حول العالم لسرعة إعداده وما يفترض فيه من قيمة صحّية عالية. لكن كيف أسهمت العولمة واقتصاد السوق الحديث بترسيخ هذه الصورة للفطور والتبشير به بين الكبار والصغار حتى يومنا هذا؟ هذه المقالة المترجمة بتصرف عن مجلة The Atlantic تعطي فكرة مختصرة عن سيرة الفطور الشعبي الأمريكي المعاصر، وتشجعكم على استكشاف خيارات أوسع على مائدتكم الصباحية.


ليس ثمّة سبب وجيه لأحرم نفسي من تناول سندويشة دجاج مع الجبن على الفطور في الصباح الباكر. هذا ما قررت أن أفعله صباح أحد الأيام، وقد استيقظت بقرصة شديدة من الجوع، أشتهي سندويشة محشوة بشرائح دجاج مقليّة وجبنة موزاريلا ذائبة وصلصة الطماطم. عندها شعرت بأن فكرة "طعام الفطور"، كوجبة تضمّ أصنافًا معيّنة وحصريّة من الطعام، أقرب ما تكون إلى فرض الزي المدرسي: فهو تعقيد لا حاجة له مفروض من الأعلى من قبل أشخاص لست مضطرة للانصياع لأوامرهم.

فكرة "طعام الفطور"، كوجبة تضمّ أصنافًا معلومة من الطعام، أقرب ما تكون إلى فرض الزي المدرسي

دارت الفكرة في رأسي وأنا أستجمع القوة للنهوض من السرير. أفكّر، لم صارت سندويشة دجاج محشوّة بالجبن الذائب أمرًا أشتهيه الآن، بينما يمكنني الاكتفاء بسندويشة بيض مع الجبن مثلًا، بما أنها ستؤدي الغرض نفسه بما تشتمل عليه من بروتين ودهون وكربوهيدرات. وماذا لو ذهبت إلى مطعم يقدم مثل هذا النوع من السندويشات ولكن فترة بعد الظهر؟ هل سأجرؤ على طلبها والساعة لم تتجاوز التاسعة صباحًا؟ وماذا لو نجحت في ذلك فعلًا؟ هل سيكون ذلك إيذانًا بانفتاح بابٍ لا سبيل لإغلاقه من فوضى طعاميّة محرّمة قد لا أستطيع التوبة منها؟ لكن كيف حصل هذا التقسيم الصارم لأنواع محددة من الطعام على وجبات مختلفة خلال اليوم؟ وكيف نشأت فكرة طعام مخصص للفطور في المقام الأول؟

اقرأ/ي أيضًا: عن ثقافة الطعام والطهو الجيد... 3 وثائقيات على نتفليكس

لم يكن طلب السندويشة أمرًا جللًا كما تخيّلت. حين أخبرت الشاب في المطعم، لم ألحظ أي علامة تعجّب من جرأتي على الحياد عن قواعد الفطور الأمريكي الصارمة. التهمت السندويشة سريعًا وبمتعة بالغة لم أكترث بسترها. لقد كرهت حبوب الفطور والشوفان واللبن على الفطور منذ صغري، ما جعلني أمقت الفطور وأهمله برمّته. وقد اكتشفت مؤخرًا أن الحقّ معي، وبتّ على قناعة بأن التعيين الصارم لصنف من الطعام للفطور هو فكرة سخيفة.

"طعام الفطور" مفهوم اعتباطي في الولايات المتحدة، ولكنّه صار متخيلًا شبة ثابت في هذه العناصر أو بعضها: حبوب الفطور مع الحليب، واللبن، والبيض، والمافن، والفواكه، والشوفان، والعصير، وربما البانكيك أو الوافل في عطلة نهاية الأسبوع إن كان يسمح الوقت بذلك. ثمّة تنويعات على ذلك بالتأكيد تختلف من منطقة إلى أخرى، ولكنّها مع ذلك تظلّ تقليدية ومتوقّعة، ومتمايزة عن الأصناف التي تجدها في الغداء أو العشاء. وعلى الرغم من أن الفطور الأمريكي ليست متسقًا على المستوى الغذائي ولا الفلسفي، إلا أنّ شكله الذي استقر عليه اليوم لم يأت صدفة، فخلف الفطور الأمريكي الحديث قصّة قرن أو أكثر من التطوّرات والتحوّلات التي تركت أثرًا على حياتنا المعاصرة.  

بدأت بذرة الفطور الأمريكي في أوروبا، حيث يعود أصل عادات الطعام التي جلبها معهم المستعمرون الأوائل القادمون إلى العالم الجديد. هنالك ابتدع الناس الوجبة الأولى في اليوم بعد قرون من التحريم الذي فرضته الكنيسة الكاثوليكية. تقول أرندت أندرسون، في كتابها (Breakfast: A History)، أنه قد مرّت فترة في إنجلترا وأوروبا ارتبط تناول الفطور فيها بخطيئة النهم في العرف المسيحيّ. ولم يتغير ذلك إلا إبّان الإصلاح البروتستانتي، فصار قوت الصباح مباحًا، وإن بشيء من التحفّظ والمفارقة للوجبات الأخرى التي كان يأكلها الناس. ومع عدم توفر وسائل التبريد، كان طعام الصباح غالبًا حامضًا ودافئًا، وفي ألمانيا عمد البعض إلى تناول حساء مطبوخ مع البيرة، وهو طبق ما يزال مشهورًا حتى اليوم في عدة مناطق من أوروبا.

أما في أمريكا الجديدة، فكان يحضر على مائدة الفطور ما توفّر وسهل تحضيره: الخبز، وبقايا لحم وطعام من اليوم السابق، إضافة إلى البيض الذي كان شائعًا في نمط الحياة الريفي المبكّر للمستعمرات الجديدة.

وفقًا لكريشنيدو راي، أستاذ دراسات الغذاء في جامعة نيويورك، فإن هذا متسق إلى حد بعيد مع مقاربة الشعوب المختلفة للوجبة الأولى في اليوم. "الفقراء في كل مكان، ولاسيما في أماكن مثل الهند والصين، يأكلون أصنافًا متشابهة بين وجبة وأخرى، أما هذا التمايز الصارم بين الوجبات فهو تقليد أمريكي من جهة، ومن جهة أخرى بات مظهرًا لترقّ اجتماعي (upward mobility) وتطوّر في نمط المعيشة. فوجبة الفطور رفاهية محدثة، ومع التطور الحاصل في أمريكا الكولونيالية وبروز المميزات الطبقية وصل التغيير إلى هذه الوجبة التي راحت تتطور هي الأخرى وتأخذ أشكالًا متعددة.  

بدأت بذرة الفطور الأمريكي في أوروبا، حيث يعود أصل عادات الطعام التي جلبها معهم المستعمرون الأوائل القادمون إلى العالم الجديد

كان هذا التطور بطيئًا في البداية. فقد كانت أمريكا في طور النمو بعد، وما تزال سبل الاتصال وتحضير الطعام مرهونة بما يتوفّر في كل منطقة من المحاصيل والمواشي والطيور، إضافة إلى استمرار الاعتماد على بواقي الطعام وجبرها في الصباح، وهو عين ما اعتاد ملايين الناس على تناوله على الفطور في مختلف أنحاء المعمورة.

اقرأ/ي أيضًا: الطعام أحد محددات الهوية الوطنية

لقد اختلفت النظرة إلى الطعام الذي يبات خارج الثلاجة مع الثورة الصناعية التي غيّرت طريقة حفظ الطعام، إضافة إلى التغير الذي طرأ على يوم العمل، ونشوء تصورات ثقافية جديدة فيما يتعلق بالصحة. ولعل أبرز من وقف وراء هذه التحولات هم "الإخوة كيلوغ"، الذين ابتكروا رقائق الذرة، أو "الكورن فليكس" في نهاية القرن السابع عشر، بالاعتماد على الأفكار التي طورها جون هارفي كيلوغ في مستشفى باتل كريك" في ميتشيغن. وقد كان كيلوغ طبيبًا ينتمي إلى كنيسة اليوم السابع المجيئية، والتي كانت تدعو أتباعها إلى الالتزام بنظام غذائي متقشف يعتمد على الخضار والحبوب والامتناع عن تناول القهوة وتعاطي الكحول.

وتؤكد بعض المحكيات التي تناقلها الناس أنه قد تم ابتكار رقائق الذرة من أجل تثبيط الغرائز الجنسية بين الناس وكبح الرغبة في الاستمناء بين الشباب، وتشير أرندت أندرسون في كتابها إلى أنه كان يقصد من تشجيع الناس على تناول رقائق الذرة في الصباح مساعدتهم على التبرز، وذلك لأن الطبيب كيلوغ كان حريصًا جدًا على أن يقضي الناس حاجتهم في الصباح.

ولم يكن لرقائق الذرة أن تتبوأ هذه المكانة دون بعض المظاهر الأخرى التي ترافقت مع الثورة الصناعية، مثل تطوّر آلة الدعاية التجارية واستراتيجيات لتسويق، وانتشار الثلاجات (لحفظ الحليب)، والمُحليات الرخيصة (لجعل رقائق الذرة مرغوبة بين صغار السنّ فتساعد على كبح الرغبة في الاستمناء كما كان مفترضًا حينها). وفي منتصف القرن العشرين بات الفطور تعبيرًا عن انتماءات طبقية معينة. فأجهزة التبريد باتت رفاهية في المنازل، وارتفعت أسعار رقائق الذرة التي تحمل العلامات التجارية الأشهر، رغم أنها في ذاتها ليست مكلفة، وليس لها قيمة غذائية عالية. لكن الشركات كانت وما تزال تتكلف مبالغ طائلة على الدعاية التجارية لإقناع الناس بتناول برقائق الذرة التي لم يكن لها أن تنجح تجاريًا لولا الحملات الدعائية الضخمة وراءها. وبعدها صار تناول طبق رقائق الفطور والمقدرة على شراء أطعمة خاصة لهذه الوجبة، علامة على التمدّن والترقّي الاجتماعي. 

كما كان في صالح انتشار رقائق الذرة وغيرها من أشكال الأطعمة المعلبة الخاصة بالفطور مسار التطوّر التكنولوجي الذي غيّر من طبيعة العمل في العصر الحديث. تقول أرندت أندرسون إن الثورة الصناعية فرضت مواعيد محددة للعمل، وصارت هنالك مواعيد مشتركة عمومًا بين الناس لتناول الطعام، ولم يعد بالإمكان قضاء الكثير من الوقت في الصباح لتحضير الفطور وتناوله، خاصة بعد أن انخرطت المرأة في سوق العمل، بعد أن انحصرت أدوارهن فيما سبق في البيت أو الحقل، ولاسيما بعد الحرب العالمية الثانية.

ومع هذه التحولات، صار طعام الفطور التقليدي، البيض وشرائح اللحم والأجبان وغيرها من الأصناف، مخصصًا لعطلة نهاية الأسبوع، إذ لم يعد تناول مثل هذا الفطور ممكنًا على المستوى اليوميّ بمعايير العصر الحديث ووتيرته السريعة، وانتقل الناس إلى منتجات الفطور الجاهزة، مثل رقائق الذرة مع الحليب، نظرًا لسرعة تحضيرها وتناولها، إذ لا تتطلب، ولاسيما من المرأة العاملة، سوى قدر قليل من الجهد في الصباح لإطعام أسرتها، خاصة بعد زيادة مستوى السكّر والمحليّات في هذه المنتجات وتنويع أشكالها وألوانها بشكل سهّل مهمّة الأم في إقناع الأطفال بأكلها.

في ثمانينات القرن المنصرم، بدأت حملات غذائية عامّة للتحذير من استهلاك الدهون، الأمر الذي عزّز من مكانة الحبوب ورقائق الذرة ومنتجات الحليب، ولا سيما للفطور السريع في الصباح. ورغم التغير الحاصل في علاقة الأمريكيين مثلًا بالدهون الغذائية، تبقى الأدلّة غير كافية لتغيير نظرة الناس عمّا يعدّ فطورًا "صحيًا" وملائمًا، مع أنه ليس ثمة دليل غذائي قاطع على أن شكل الفطور السائد اليوم هو الأفضل بالضرورة للصحّة. فليس ثمة ما يبرر تناول هذا القدر من السكر في الصباح، أو شرب الحليب باردًا. بل إن قيمة الفطور في ذاته ما تزال موضع خلاف لم يحسم بعد بين المختصين من علماء التغذية، ومكانة الفطور باعتباره "أهم وجبة في اليوم"، قد لا تكون سوى ثمرة عقود طويلة من التسويق والدعاية التجارية.

الصورة النمطية للفطور الأمريكي اليوم لم تترسّخ إلا بعد أحداث كبرى، كالثورة الصناعية، والحرب العالمية الأولى والثانية، وموجات تحرّر المرأة

قد لا يأخذ الإنسان المعولم المتوسّط مسألة الفطور بهذا القدر من الصرامة بالضرورة، وقد يأكل أصنافًا أخرى مختلفة على الفطور لو رغب في ذلك، ولكن يبدو أن الشكل النمطي للفطور لن يتغير قريبًا. فالرغبة في وجبة سريعة في الصباح، والتعاطي مع المعلومات الغذائية المتضاربة في وسائل الإعلام والإنترنت، يجعل هذه الوجبة عصيّة على التغيير. فالطعام ميدان تحكمه العادة والأعراف، وهذا يصدق بالتحديد على وجبة الفطور. فالإنسان الحديث يستيقظ اليوم، ويتوجه بشكل يكاد يكون تلقائيًا لإعداد القهوة وتناول طبق رقائق الذرة أو الحبوب مع الحليب، ولا يشعر بحاجة للتفكير كثيرًا في الأمر.

اقرأ/ي أيضًا: ماذا يقول العلم الحديث عن أثر تناول الطعام قبل النوم؟

هذه الصورة النمطية للفطور الأمريكي اليوم لم تترسّخ إلا بعد أحداث كبرى، كالثورة الصناعية، والحرب العالمية الأولى والثانية، وموجات تحرّر المرأة ودخولها في سوق العمل، وقد يتطلب الأمر أحداثًا كبرى بمستوى ما سبق حتى تتغير أنماط الفطور السائدة اليوم وعلى رأسها رقائق الذرة والحليب. لكن هذا لا يعني أن تبقى أنت عالقًا هنا، وتحرم نفسك من الذهاب إلى مطعم على استعداد لتحضير أشهى السندويشات العتيدة من الدجاج أو اللحم في الصباح الباكر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

6 من أغرب الأكلات الألمانية على الإطلاق

"المونة" اللبنانية.. موضة لن تموت