سحابة

ها هي تمر في منتصف حقل الذرة حيث يقف بقامة مشدودة، والعرانيس حوله متشابكة وعلى وشك الجفاف، لا يبدو للعيان أن في الحقل ممرًا للسائرين على قدمين، وكأنه لم يغادر موقعه من الدقيقة التي دخل فيها، حتى نمت السيقان ومالت الأوراق الطويلة مخفية آثار دخوله.

لا تشبه الغيوم التي تعود أن يراها مسطحة ومتطاولة، بلحى أحيانًا وبنهود بارزة أحيانًا أخرى. هذه التي تمر فوقه الآن وردية كغزل البنات، لا شكل مميز لها سوى شكل السحاب العادي المندوف من الأطراف، غير أنها كلما مرت انتزعت منه شيئًا ينتمي إليه أو يتواجد حوله بمحض الصدفة.

السحابة التي كانت أشبه بفوهة جائعة، كانت كأنها تملك خاصية مغناطيسية لشيء واحد، ليس محددًا على وجه الدقة ولا ينتمي إلى منظومة معينة من حيث الوزن أو القرب أو التعلق. شيء واحد يستقر في قلبها قبل أن تتكور عليه ويختفي كأن لم يكن.

وهكذا فقد عصافيره الملونة واحدًا تلو الآخر، ومحفظته بما فيها من بطاقات هوية ورخص قيادة وبطاقات ائتمان مصرفية، فقد حذاءه وشعر صدره وبضعة أسنان. أحيانًا يكون محظوظًا وتفتديه السحالي والحشرات الطنانة، ولكنه غالبًا ما يقع فريسة لمرورها المفاجئ غير المنتظم.

ينظر إليها بتوجس محصيًا ما يمكن أن يخسره المرة، هو الآن عارٍ ولا شيء مميز حوله، لا صوت لذبابة أو رفرفة لفراشة، الوقت منتصف النهار والحرارة لاهبة.

لكنه المرة لا يحس بشيء مفقود، لا شيء يرتفع أمام ناظريه، ما زال بإمكانه تحريك أطرافه ولسانه، لا شيء سوى مذاق لاذع يملأ فمه بينما يمتلئ محيطه بعشرات العصافير والجنادب والكتل الصلبة والحادة التي لم يتبينها، ويظل حقل الذرة واقفًا بقامات جافة ومنحنية لا أثر فيها لمرور طارئ أو مقيم.

 

حفرة

بملقط صغير دقيق الأذرع، يحرّك عقرب الدقائق أولًا، فيتراجع الظل ببطء ثم ينسحب سريعًا، يطل النصف العلوي من قرص الشمس المتواري، ويغادر زبون المحل لحظة ثم يعود. يرجف قلبه قليلًا ولكنه يواصل تحريك العقرب باتجاه الشمال.

لقد كان نحيلًا بشكل صادم وميّالًا إلى العصبية والتجهم ولكنه كان نادرًا ما يخاف؛ ذلك أنه كان يؤمن محقًا أن المرء لا يخاف إلا مما لا يمكن تلافيه، القدر الهابط كحقيقة مقيمة لا حيلة إلى دفعها هو ما يثير الرعب حقًا. أما وقد كان يملك صنعة آبائه فقد كان خاليًا من التردّد أو الجبن، كان بإمكانه وهو ابن أبي يوسف الساعاتي أن يتلافى صدمات الحياة بحركة بسيطة بعقرب ساعته.

تفتّح يوسف على صنعة الوقت منذ صغره، فاز في عراكات عديدة بعد اطلاعه على حركة خصمه الأولى. جهز ردودًا مفحمة بعد تلافيه صدمة الكلام التي تلجم عقل المتلقي بداية، لم يفوت قطارًا في حياته ولا اكتفى مرة بنشوة واحدة.

جمع ثروته وثروة آبائه من تلاعب خفيف غير ملحوظ في ساعات الناس. لحظة واحدة يعود فيها من فقد حياته لكلمة وداع أخيرة، لحظة لتفادي حادث مميت، أو لسحب كلمة فارقة، أشياء من هذا النوع الساذج في منظار آل الساعاتي؛ أشياء تؤجل الأقدار ولا تلغيها، لهذا لم تكن أشياء آثمة.

ورغم أنه كان يعلم أن اللعب مع الزمن، يشبه اللعب مع النار، لا منجى من عواقبه، لا لأن اللحظة المكررة تقضم في ثنيتها لحظة من آخر عمره، كدودة تطبق على ذيلها وتبتلعه، وأنه سيموت ككل آبائه الأولين في عشرينياته رغم أن عمره الحقيقي كان ليكون في الستين لولا صنعته تلك، ولكن لأنه أدرك مبكرًا أن لا داء يصيب الإنسان أسوأ من داء الملل. حين يكون كل شيء معلومًا ومتوقعًا وممكن التفادي والتصحيح.

إلا أنه رغم هذا الإدراك الساطع لم يستطع أن يتخلى عن عادته تلك، والتي والحق يُقال إنها تحولت إلى عادة تشبه عادة أكل الطبشور أكثر منها صنعة ذات جدوى، وظلت شمسه تشرق مرات عديدة في يومه كلما عازه نوم إضافي، وظل أطفاله كلما كبروا قليلًا يصغرون وتقل شكواهم، وظل صحنه كلما نقص قليلًا امتلأ.

يلف يومًا عاديًا لا يستحق أن يُسجّل في أيامه النوعية ذات الصخب، تزول الشمس، ينتصف النهار، يختفي الظل، يخرج من باب محله صباحًا، تعلق قدمه في حفرة ردمتها البلدية مساء أمس، يحاول الخروج من الحفرة جاهدًا ولكنه كلما قفز منها غاصت.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ما بقيَ لنا أكثر مما مضى

بكاء الغابة