27-نوفمبر-2019

ستيسيس إيدرودوفيتش/ بولندا

ما من مخلوق يمكنه التحرّر من رهبة المرور في نفق مظلم. إحساس شائك أن تسلّم نفسك للعتم المطلق داخل عربة مغلقة لمدة بطيئة ثقيلة مهما كان زمنها قصيرًا في الواقع؛ إلا حين يكون الأمر استثنائيًّا بكل المقاييس.. كما حدث مع رضا في ذلك اليوم المختلف.

رضا الرجل المسالم الذي يتجنّب الصدام والمرتفعات وكل أنواع المفاجآت، ويكافح للبقاء بعيدًا خارج الضوء.

رضا وُلد لطيفًا هادئًا لا يبكي في الليل، ولا يعترض عندما ينتزع أحدٌ لعبته من بين يديه ولا يشتكي ممن يعتدي عليه.. نموذج مثالي للتواضع والطاعة؛ طاعةِ الأهل في البيت، والتعليمات في المدرسة، ثم "أبو هادي" معلمِه في مشغل الحياكة منذ خمس وعشرين سنة، والأبِ الروحي وشبه المسيّر لحياته، وصاحب الفضل الأكبر في تشجيعه على الرحلة ومساعدته في تأمين تكاليفها، فليس من الإنصاف لرجل قارع الأربعين ألا يكون في رصيده تجربةُ حياة واحدة أو حتى مغامرة عابرة! آن لرضا أن يحظى بفرصة يستحقها بعد عقود من الحرمان والتقشف حتى في أحلامه.

ما إن صعد إلى القطار وأخذ مكانه في إحدى الحافلات الخلفية حتى تملكه ذعرٌ شديد فهي المرة الأولى التي يسافر فيها وحيدًا، والأسوأ أن النفق المظلم على بعد دقائق من محطة الانطلاق. أغمض عينيه كما جاء في وصفة المعلم السحرية.. اسمع.. اسمع يا رضا، لكي تتجاوز لحظة الرهبة التي أنت فيها الآن.. تخيل فقط أنك على مدخل شاطئ الأحلام، وخمّن ما ينتظرك من مسرّات تبهج العين، وما يشتهي قلبك من "فتيات الخدمة" بالغات الدلال والجمال يتجوّلن بلباس البحر، هذا كله ما عدا الموائد المفتوحة ليلًا نهارًا على ما يطيب لك من أصناف الأطعمة والمشروبات؛ حينها فقط ستهزم خوفك ويعبر القطارُ النفق بأسرع مما تتمنى.

نجحت وصفة أبي هادي السحرية إلى حد ما وجعلت رضا يغوص عميقًا في مخيلته العطشى التي راحت تتفنن في رسم الأمنيات العامرة وقد بات تحققها مسألة وقت لا أكثر.

الطبيعة على جانبي القطار كانت خرافية بغناها وألوانها لكن رضا لم يكن معنيًا بهذا الجزء من الرحلة.. كان ينظر باستمرار من النافذة إلى الأمام آملًا في أن يكون أول من يبصر معالم شاطئ الأحلام.

أين تذهب الأمنيات تلك التي لا تتحقق؟ هذا السؤال الوحيد الذي لم يفارق فضوله أبدًا. كان يدّخر كل ذلك القنوت والحرمان ليصرفه اليوم أضعافًا مضاعفة من الحرية.

في لحظة شرود لم يتوقعها أعلنت صافرة القطار وصول ركابه إلى مدينة شاطئ الأحلام.

غادر رضا المحطة بيدين فارغتين، فبطاقة الرحلة كما أخبره المعلم أبو هادي تشمل مصاريف الإقامة كاملة، وكل ما قد يرغب بالحصول عليه متوفر مجانًا في المنتجع.

حين بلغ بوابة شاطئ الأحلام المزدانةَ بأكثر أنواع الزهور ندرةً وأشكالًا وعطورًا، شعر بدوار يدغدغه وكأنه في حلم.. لو كان في يد رضا مرآة لشاهد التهلل كيف يغمر وجهه على هذا النحو لأول مرة في حياته كلها.

حيّاه موظف الاستقبال بمنتهى الودّ مرحّبًا بقدومه، سلمه مفتاح الجناح وتمنى له الاستمتاع وطيب الإقامة.

كل شيء غاية في المثالية وأقرب إلى الكمال.. السرير مريح يعبق برائحة النظافة إلى درجة تغري بالنوم، والثلاجة ملأى بكل ما يشتهي، والغرفة متسّعة ومطلة مباشرة على الشاطئ الذي يعجّ بالجمال والإثارة..

لحظة طال انتظارُها أكثر مما يجب.. لحظة قرار الإفراج عن الغريزة، وفتح باب القفص لكل فكرة موءودة وحلم معتقل.. لحظة الانطلاق لأول مرة دون رسن ولا لجام.. اللحظة التي كان رضا فيها متأكدًا تمامًا من رغبته العارمة في التهام كل ما في الثلاجة، وابتلاع كل ما في الزجاجات، ومعاشرة كل من في الشاطئ من نساء.

وقف إلى النافذة التي تملأ مساحة الجدار؛ عينُه على الشاطئ وما عليه من فاتنات؛ وعينه الأخرى على الثلاجة الشفافة التي تعرض الأطعمة التي لا تُقاوم.. خياران مسيلان للعاب؛ بأي منهما سيفتتح يومه أولًا. قبل أن يحسم أمره فُتح الباب وأطلت امرأة بالغة الحسن. صعقه ما رأى ولم يصدّق عينيه من عجيب الشبه في الشكل والصوت والحركات بينها وبين شيماء.. الفتاة التي بقي ظلُها مرافقًا لطفولته ومراهقته ورجولته؛ يقابله كل ليلة في حلم يقظته قبل النوم.. كان ولا يزال مولعًا بها حد الجنون.. شيماء ذات الشعر الطويل الأسود والجينز الممزق الأزرق والحذاء المفتوح الأحمر.. شيماء صاحبة الجسد الممتلئ والصوت الشهي الذي يطرب له أكثر من أي مقطع لأم كلثوم حين يلتقي بها صدفة عند بائع الخضار.. شيماء الحوريّة التي هبطت خطأً على الأرض وسكنت في البناء المجاور.. هي الآن بشحمها ولحمها وأنوثتها كاملة بين يديه.. اقتربت منه بغنج وإثارة ودفعته إلى السرير، واستلقت بكامل عطرها فوق جسده الملتهب.. هو ذات الشعور الذي يعتري تربة صحراوية شقّقها العطش حتى الجفاف واليباس؛ ثم انهمر المطر غزيرًا فضخ في عروقها نبضات حياة لم تعشها من قبل.. رضا الآن في وضع مماثل لكنه بعيد جدًا عن عقله لكي يعي ذلك التشابه أو حتى يدركه.

لم تكن إلا ثوان حتى أحسّ رضا بيدي شيماء تحيطان حول رقبته بضغط متزايد تسارع إلى اختناق مميت. فتح عينيه منتفضًا بصرخة رعب مدوّية روّعت الجميع من حوله حتى أن البعض فرّوا هاربين من شدة الفزع، يبدو أنه أطلقها في التوقيت الخاطئ حيث الخطيب قد بدأ لتوّه بالحديث عن عذاب القبر.

 

  • من مجموعة "مسألة موت فقط" التي تصدر قريبًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

إلى غودو

يوميّات ناقصة