14-ديسمبر-2015

الكاتبة بسمة الخطيب

يخبرنا عنوان رواية بسمة الخطيب "برتقال مر" (دار الآداب، 2015) الكثير عن عالم الرواية. فنحن نعلم أنّ روح زهور البرتقال المر تتحول عبر عمليات تقطير خاصة إلى "المازهر". ويمكن الاستعانة بوصف بسمة الخطيب لتلك الروح، لوصف الرواية ذاتها مع الإشارة إلى أنّه وصف مبدئي. إذ تسربت تلك الروح إلى نص الكاتبة وبعثت فيه "روح حلوة وقوية إلى درجة إنعاش الغائبين عن الوعي، وإعادتهم إلى الحياة" لكن يفوت هذا الوصف بأنّ روح زهر الليمون هي روح شعرية بحتة، قد جعلت النص السردي يشكو تبعات ذلك، كأن الكاتبة عمدت إلى تبديد تلك الروح المكثفة في صفحاتٍ باتت تعاني استرسالًا كبيرًا، لقد بدت بسمة الخطيب في الرواية، تحكي أكثر مما تروي، وتقول أكثر مما تضيف، ليظهر فن الرواية لدى الخطيب، بوصفه "فن الثرثرة".

الحب والطبخ ليسا شيئين مختلفين، لأن نتيجتهما واحدة وباعثهما واحد

تبدأ حكاية مي من حدث في طفولتها، نما في ذاكرتها كي يصير حُبَّ حياتها الوحيد، لكنه منذ البداية حبّ طفولي، لشاب يدرس الطب، مثقف وثري في قرية ريفية. ما يلبث أن يخطب خالتها ويعود إلى روسيا، لتصل البنت الشقية بطريقة ما إلى غرفته، وليصبح ذلك الحب تعلقًا بشيءٍ مجهول، أشبه برسم خيالات في البال ثمّ التوهم بواقعيتها. في حين الحقيقة الوحيدة هي عزوف تيم عن الزواج من فاطمة. وبالتالي، سيصير تيم محط كره من عائلة مي، لتقع الراوية في دراما الحرمان واليأس من حُبّ غريب ومستحيل.

في البيت الذي استأجرته في بيروت، كي تحضّر لموعد عمرها بعد عشرين عامًا من الحادثة التي ترك فيها تيم عطره في الجرح الذي خاطه، ليسم الندبة الناتجة عن سقوطها عن الشرفة سمة عاطفية، جعلتها تختلق كذبة كي تقابل رجل حياتها، وحياة بقية الفتيات في القرية. في البيت، تحضّر طبخات متعددة، كي توصل له رسائل بنكهات عدة، اللوعة والشوق والاستغراب عن عدم زواجه من خالتها والاستفسار الخجول عن تفاصيل شتى تجهلها. 

راحت مي بانتظاره تسرد حياتها والتي بدأت بتقطيب طالب الطب لجرحها حتى موعدها معه، لكنه صار مخرجًا سينمائيًا متزوجًا من سيدة روسية. تنقل الراوية عن طريق حكايتها، حكايات الفتيات كلهن، حيث النساء رهن رغبات الرجال، حيث المرأة عدوة المرأة، وعدوة نفسها.

مثلما تتنازع البرتقال المر نكهتان، كذلك مضت حياة مي بين امرأتين، جدتها التي تحكي لها القصص وتعطيها المال، الجدة التي تحنو عليها، وترد مي بعضًا من فضلها عندما تسوء حالة الجدة. وأمها على الجانب الآخر التي تمقت كلّ منهما الأخرى.

تتحول نساء "برتقال مر" إلى نسخ عن أمهاتهن وجداتهن، ومع كل نسخة تفقد الصورة شيئًا من أصالتها

مي جاءت بعد أربع بنات، وجعلت الأم عيشة ابنتها تعتقد أنّها مرفوضة ودميمة من الداخل، عدا عن شكلها الخارجي الدميم كما تصف الراوية نفسها. وبين لين الجدة وقسوة الأم، راحت مي تكبر وتلجأ إلى المطبخ، كما لجأت إليه أيام الحرب. لكنه لجوء، سيصير مختلفًا عندما تكبر حيث باتت تعتقد بأنّ: "الحب والطبخ ليسا شيئين مختلفين، لأن نتيجتهما واحدة وباعثهما واحد. حين تطبخ تقوم بفعل حبّ، تستخدم كل حواسك لأجل الفوز بحبيبك".

لقد بات واضحًا، الآن، السبب وراء إيلاء الطبخ كلّ تلك المساحة من السرد في رواية عن الحبّ الآتي من ذاكرة بعيدة كانت خزانًا مدهشًا وثريًّا، تقول مي بأنّ ذاكرة الطفولة متفوقة على الذاكرة القريبة، ولم تخشَ جدتها الموت جائعة، إنّما "الموت من دون ذاكرة". 

لقد رأت الراوية مي كيف تحولت نساؤها إلى "نسخ متتالية" عن أمهاتهن وجداتهن، ومع كل نسخة كانت الصورة الأصلية تفقد شيئًا من "أصالتها". أي، يمكن لنا القول بأنّ الشخصيات النسائية في الرواية جاءت من صلب واحد، من واقع واحد بمعنى أكثر دقة. فبدت الرواية خالية من المفاجآت، خالية من التصعيد، حتى عندما اقتضى اللقاء بين مي وتيم تصعيدًا عاطفيًّا، فقد أفشل انشغال مي الدائم "بتبرير نفسها" اللحظة الدرامية تلك، قبل أن تنهي الراوية النص نهاية مفتوحةً على الاحتمال العصي، ما أضفى على الرواية جمالًا مباغتًا، هو جمال اللحظات الأخيرة. 

اقرأ/ي أيضًا: 

"سيد المرصد الأخير".. مصائر الزعامات المحلية

"الأحلام الجديدة".. نجيب محفوظ يثور