17-أكتوبر-2023
من مظاهرة في ميونخ

(Getty) من مظاهرة في ميونخ

ليست مصادفة أننا كلما اقتربنا من مركز المحرقة اليهودية كلما غدت مساندة فلسطين أشدّ صعوبة، إلى درجة لم تعد تعني إدانة إسرائيل بين غيتوهات أوروبا سوى معاداةٍ للسامية. والتشخيص أنّه ذنب عظيم ومتورّم، يضغط على العصب القومي الألماني فيسبّب رجفانًا ذهنيًّا وتشويشًا في تصنيف الجريمة، لتتشكل في مركز الهولوكوست وما حوله نقطة عمياء تحجب مأساة الفلسطينيين، فلا يراها السائق الأبيض الذي يدعي قيادة التاريخ صوب مستقبل أكثر إنسانية.

ومع اتساع المجزرة في غزة وإمعان الموقف الرسمي لمعظم دول أوروبا ومؤسساتها في تغطية القتل الإسرائيلي، يتضح أن المركزية الأوروبية هي ذاتها مركز الهولوكوست، من ناحية قدرتها على تبرير الأفعال والمواقف مهما بلغت شناعتها، فلا تتردّد في التكفير عن ذنب عظيم بالسماح بارتكاب ذنب تاريخي آخر.

ومع استمرار القوة ترسّب الشعور بالعار وتراكم في قاع إرث حضاري واستعماري محقونٍ بالشعور بالتفوق والتفرّد باستحقاق العيش بأمان وكرامة، فبات من السهل ومن باب إتقان الصنعة ابتكار المخارج المنطقية والسياسية لتمرير أي إبادة أخرى. ولو رمت إسرائيل غدًا قنبلة نووية على غزة لاستنكروا الأمر جميعًا، ثم اختلفوا فيما بينهم إن كانت تلك جريمة حرب أم قرارًا تاريخيًا صعبًا ومؤلمًا لكنه كفيل بإنهاء الصراع المستعصي، مثل النقاش الذي انتهى إليه إلقاء الولايات المتحدة قنبلتين نوويتين على اليابان منذ أقل من ثمانين عامًا.

على الرغم من عشرات الآلاف الذين خرجوا للتنديد بالهمجية الإسرائيلية في مدن أوروبية عدة، ينحسر الفعل الشعبي الواسع الداعم لفلسطين مع تصاعد اليمين وهيمنة النيوليبرالية

يخشى اليوم عرب أوروبا وخصوصًا المقيمون في ألمانيا، من التعبير عن التضامن مع فلسطين، خوفًا من التعرض حاليًا أو لاحقًا إلى مساءلة قانونية أساسها تهمة معاداة السامية، وما قد يترتب على ذلك من إجراءات قد تُلحق الضرر باستقرارهم هناك، حيث قدموا هاربين من البطش والفقر والحروب في بلدانهم الأصلية. تبدو تلك الخشية مبررة في بلد ديمقراطي حصل فيه ذات مرة أن فصلت شبكة تلفزيون DW موظفين فلسطينيين من العمل بعدما اتهمتهم بمعاداة السامية لأنهم رفضوا احتلال بلدهم. وكان من مآثره الأخيرة إلغاء تكريم الكاتبة عدنية شبلي خلال معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، الأمر الذي أخاف العاملين ذوي الأصول العربية في المؤسسات الألمانية التي قد تُصاب بالجنون فعلًا إزاء كل من تسوّل له نفسه إدانة إسرائيل.

لكن من جانب آخر، هناك انطباع بأنّ أولئك المهاجرين جاؤوا أوروبا وفي قلوبهم خوف من السلطة، يتطلب وقتًا طويلًا حتى يزول فلا يعودون يتبسمون في وجه عناصر الشرطة كلما صادفوا أحدهم في الشارع، وربما سنين ليتمكنوا من إجراء قياس دقيق لارتفاع السقف المسموح به، كي يناوروا تحته للدفاع عن قضاياهم دون القلق من عواقب كبرى. وحتى ذلك الوقت فالمتوقع من مئات الألوف هناك الانكفاء والصمت والخوف من إبداء الرأي. باستثناء بعض المثقفين، خصوصًا الليبراليين منهم، وبالتحديد الصنف غير القادر على الصمت، ممن يشعرون بأنهم وُجدوا لكي يُدلوا بدلوهم في أي قضية، لكن عليهم الحذر من المساس بإسرائيل، ولا حلّ إلا أن يوجّهوا خطابًا معاديًا لحماس، ثمّ لا بأس في أن يُبدوا تعاطفهم مع الضحايا الفلسطينيين بعد الولوج من ذلك المدخل الآمن.

اليوم تحاصرنا خوارزميات مواقع تواصل العالم الحرّ، بينما تنهال المنافذ الإخبارية العالمية على المعلّقين الفلسطينيين بالأسئلة المجتزأة من آخر القصة، من فقرة طوفان الأقصى التي صرخ فيها الإسرائيلي من الألم، متجاهلين مقدمة الرواية وأصل الحكاية وآلاف الصفحات التي توثق استباحة الدم الفلسطيني، فيأتون إلى الموضوع من الأبواب الإسرائيلية، من فوق، وليس من الأسفل، من الأرض الفلسطينية، من النكبة، من معنى النكبة، ومن فكرة الاحتلال.

وإذا أردتني أن أدين أَسر مدنيين إسرائيليين سأفعل ولكن بعد أن أروي كل الحكاية، والحكاية طويلة وعليك أن تسمعها وتفهمها وتحفظها ثم ترويها، ثم تدين الاحتلال وجرائمه واستيطانه وغطرسته وتضغط على حكومتك لكي لا تتحالف معه وتزوده بالأسلحة التي يقتلني بها. عندئذ ستتعلم أن تلتفت إلى صراخ الأمهات اللواتي يفقدن أبناءهن بالقصف، لا إلى الزعيق الصهيوني فحسب، وستُدرك أنّ أصل البلاء هو الاحتلال.

يناسبهم أن نسكت وينسوننا، وإذا ما سألناهم ماذا نفعل وغزة تحت الحصار وفيها مليوني إنسان مسجونين منذ 17 عامًا، أشاحوا بأيديهم وقالوا اذهبوا الآن وادخلوا بيوتكم، ونحن سنجتمع بعدما ننهي شرب النبيذ في الرده المجاورة لقاعات المؤتمرات، لنقرّ حجم المساعدات الغذائية والطبية التي تحتاجونها، نحن إنسانيون للغاية إذا ما تعلق الأمر بالصدقات، لكنّ دخان المحرقة يمنعنا من مشاهدة ما تفعله إسرائيل بكم.

وهكذا لا يضغطون عليها ولا يقاطعونها ولا ينهون تحالفهم معها إذا ما استمرت برفض الانخراط في أي مسار سياسي يؤدي إلى السلام. يعجبهم أن يتعاملوا إجرائيًا مع تداعيات الاحتلال، فيحولون المسألة من أكبر قضية سياسية عالقة في العصر الحديث إلى مشكلة إغاثية تتكفل بها منظمات دولية.

على الرغم من عشرات الآلاف الذين خرجوا للتنديد بالهمجية الإسرائيلية في مدن أوروبية عدة، ينحسر الفعل الشعبي الواسع الداعم لفلسطين مع تصاعد اليمين وهيمنة النيوليبرالية على أسلوب العيش وطريقة التفكير وترتيب أولويات البشر. ومن تداعيات تلك الهيمنة موت الجموع وتلاشي الجماهير، فلا قضايا كبرى، لا عدالة ولا حرية ولا مناخ، صارت مجرّد أجندات لمؤتمرات دولية ومشاريع تشغيلية لمنظمات الإن جي أوز. لقد بتنا أفرادًا أكثر مما يجب، وأصبحنا عناصر معزولة يسهل حكمنا وتضليلنا وإيهامنا بأننا نملك خيار المشي في الاتجاه الإجباري. ومن شدّة اغترابنا توهمنا انعدام الوسائل واعتقدنا أنّ النجاة فرديةٌ في عالم يمجّد الواقع أكثر مما ينبغي، ومهما بلغ انحطاطه.