11-أغسطس-2016

باسكار شاكرابورتي

هذه المقالة عن واحد من أحد أهمّ شعراء البنغال، باسكار شاكرابورتي، وهي تقدّم للقارئ العربيّ صورة عن أحد شعراء شبه القارّة الهنديّة الذين قلّما يحظون بالاهتمام والحضور في نقاشاتنا وتعاطينا الأدبيّ المعاصر، وقد أتبعتها بترجمة عربية لإحدى قصائد شاكرابورتي القصيرة. 


مرت في الثالث والعشرين من الشهر الماضي ذكرى وفاة الشاعر البنغالي باسكار شاكرابورتي، وهو أحد شعراء كالكوتا (كولكاتا حاليًا) والذين يصعب تصنيفهم بل ويستعصى وصفهم. فهو ليس معروفًا حتى لدى القراء البنغال خارج كالكوتا. وكما كان يُدعى الشاعر الفنلندي بافو هافيكو من قبل "سرّ أوروبا الدفين" لسنوات عديدة، فإن هذا الوصف قد ينطبق كذلك على شاكرابورتي لوصف مغموريّته في تلك البلاد. ولعل الطبيعة العصيّة لنصوص مثل هؤلاء الشعراء ولغتهم التي لا تنفكّ تفارق المألوفات اليوميّة تفسّر مدى انتشارهم المحدود في العالم الأدبي، على الأقل أثناء حياتهم. ولكنّي أفترض أنّ مهمّتنا نحن المحبّين للآداب تتمثّل في امتلاك قدر أكبر من التنبّه لمثل هذه الأصوات في عالم الشعر. 

إنّ الذي يظهر أثناء الترجمة الجيّدة للشعر هو ليس اللغة التي تمتلكها، وإنمّا اللغة التي تفقدها

لقد عكفت على ترجمة شاكرابورتي منذ سنتين، وتعلمت عن الشاعر وشعره بقدر ما تعلمت عن مهمّة الترجمة نفسها. إنّ الترجمة تتطلّب من بين ما تتطلب قدرةً على التأنّي والتفاني، فالترجمة هي فعل يتمّ بالمحبّة، والعجلة والمحبّة لا يجتمعان. فصوت الشاعر يحتاج برهة من الوقت كي يتجلّى للمترجم أثناء القراءة وينتقل هذا الصوت ببطء إلى شعور القارئ أو المترجم، وعندها وحسب يمكن أن يمتلك المترجم الجرأة الكافية للشروع في الترجمة. إنّ الذي يظهر أثناء الترجمة الجيّدة للشعر هو ليس اللغة التي تمتلكها، وإنمّا اللغة التي تفقدها إذ تجد نفسك أنت تخضع للترجمة من قبل الشاعر. إن السرّ في كل المترجمات العظيمة هو حالة معكوسة تمامًا: إنّك تترجم الكاتب (أو الشاعر) الذي يترجمك. 

اقرأ/ي أيضًا: نيرودا كتب لي قصيدة

ثمة أيضًا سؤال اللغة. ففيما يتعلق بقضية ابتعاد أو اقتراب الترجمة من الأصل نجد الإجابة الفصل عند بورخيس إذ قال: "إنّ الأصل يخون الترجمة." أعتقد شخصيًا أنّ المترجم الضعيف هو الذي يكون مسكونًا دائمًا بسؤال الوفاء للأصل. تصوّر معي ذلك الإبداع الجريء في ترجمة غريغوري راباسا لرواية مائة عام من العزلة، والتي صرّح ماركيز بلا مواربة بأنّها أفضل من الأصل الإسباني. أمّا خلاصة الرأي ومنتهاه في ترجمة الشعر فهو ما قاله أوكتافيو باز: "القصيدة المترجمة ليست سوى قصيدة أخرى جديدة". ولهذا يجب على المترجم ألا ينشغل سوى باللغة التي يترجم إليها. وأثناء تجربتي في ترجمة شاكرابورتي فقد كنت معنيًا على الدوام بالعثور على الطريقة التي ينعكس بها صوت الشاعر في الترجمة الإنجليزية. 

إنّ شاكرابورتي يسمع الصمت ويكتبه. فهنالك شيء من الشبحيّة تلف قصائده وتظهر بعمق غريب يكون المجهول معها مألوفًا والمألوف مجهولًا. وبسببٍ من هذه الطبيعة لديه، نجد قصائده تتأرجح بين الحلم والواقع. ففي قصيدة له بعنوان لغة الزرافات يقول: 

"أرى النسيم يعصف، والحافلات، تمدّ أجنحتها
طائرة في المدينة".

ويقول في مقطع من قصيدة نثر: "كالكوتا التي لنا قد ولّت بعيدة عنا، ولم نعد نحدّث أخبارها. دعوني أخبركم، لقد طوّفت هذه المدينة أيامًا عديدة كي أموت فيها، وفي أيام عديدة كنت أصحو وأنا في حلم". 

وفي قصيدة نثر ثانية يقول: "حين كانت لدينا أيّام لا نرجو فيها سوى التجوال في المدينة، كنت أرى الحافلة ذات الطابقين تسبح وتسرع في أنحاء كالكوتا- وفي الحدائق والمطاعم، أجد الأولاد والبنات يطفون على سطحها ويتبادلون القبلات". 

إنّ شاكرابورتي، كمعظم شعراء كالكوتا، هو شاعر المدينة، فالمدينة على الدوام تدخل قصائده وتخرجها. ولكنّ كالكوتا شاكرابورتي لا تُعرف بضوضائها المعتادة، فقصائد شاعرنا هذا، بخلاف شعراء كالكوتا الآخرين، لا تحكي قصص العناء والتعب ولا تعكس صور الزحمة والصخب في المدينة ولا مشاهدها المليئة بالحياة. إن شاكرابورتي يحيا ويسير في زمن مختلف ودومًا ما تكون المدينة في أشعاره محمولة على الذاكرة، حيث تبدو فيها الحياة ثم تتلاشى تمامًا كما هي ذاكرة كل مكان. وتظهر هذه الحالة في شعورنا بالبعد بين المدينة والشاعر، هذا الإنسان الذي يبدو أنّه يعيش على أطراف المدينة، وهذه المدينة التي يبدو أنّها تعيش على أطراف ذكريات الشاعر الكثيرة عن الحياة. هنالك حالةٌ من البعد تظهر أحيانًا في كلمة "ربّما" التي يكررها كثيرًا في سيرته الذاتية التي قدّمها على شكل قصيدة نثر، حيث تضيف هذه الكلمة نكهة غامضة من الشكّ على الذاكرة تاركة انطباعًا مذهلًا ومؤثرًا: "ربما كان الأمر معكم جميعًا، أنتم الذين اعتدت مجالستكم على العشاء كل ليلة- ربما كان الأمر معكم جميعًا، أنتم الذين اعتدت مرافقتكم إلى الحفلات الموسيقية -أنام- وفي منتصف الليل كانت أختك تتسلل لتنام إلى جانبي. لقد كنت في كثير من الأحيان مثل بحيرة غائبة الذهن".

غياب العاطفيّة في قصائد شاكرابورتي يدلّ على نضج شعوري في علاقة الشاعر مع مدينته

لقد كانت كالكوتا نوستالجيا الشاعر وكابوسه، فهو الذي يذكر اللذات العابرة للصداقات حينًا، ويتكلم بهلوسات عن حياته في المدينة حينًا آخر. كما أنّ هنالك شيئًا من خيبة أمل لدى شاكرابورتي بخصوص المدينة، فهو يجد نفسه وحيدًا وأنّ علاقته مع المدينة بعيدة ومحيّرة. كما يظهر في بعض قصائده تبرّم من حياة الطبقة الوسطى في كالكوتا، فيقول في قصيدة قصيرة تحمل اسم المدينة: 

"يومًا ما سأهرب من كالكوتا هذه
ليس في كالكوتا سوى صوت الزجاج المهشّم 
وصوت السكاكين والشّوك ينتشر على الأرضيّة".

فهنالك أحيانًا غياب للعاطفيّة في قصائد شاكرابورتي يدلّ على نضج شعوري في علاقة الشاعر مع مدينته. 

اقرأ/ي أيضًا: سالغاري والقرصان الأسود

ولعله من الضروري كذلك أن نقرأ هذا الشاعر عبر حالة معاناته مع المرض، حيث يسري مزاج خاص في قصائده التي كتبها بعد إصابته بمرض السرطان. فقد كان يهلوس أحيانًا من آثار الأدوية التي كان يتعاطاها للعلاج، معاينًا التجربة معها كوسيلة مستحيلة لاستعادة كل ما يخسره: ذاكرته وحياته. 
في قصيدة بعنوان "لكم جميعًا" يحاول شاكرابورتي التخلص من وعي حادّ بالموت فيقول:

في رائحة الكيروسين، أذكر كم مجدّدًا
أذكركم جميعًا- في الساحة المظلمة
حيث يتجه القطار البعيد 
وعند الغسق هناك، أجلس وحدي. 

إن كان هناك شاعر من شعراء الهند قادر على خلق تلك الإيقاعات التي تذكّرنا بأوسيب ماندلشتام، فسيكون هذا من دون شكّ هو شاكرابورتي. 


الداء 

هل كنت راغبًا بزيادة حضور الأصدقاء
إلى جانب سريري، 
الرماد يسقط عن السيجارة لدى الفجر 
أحتاج لفعل شيء ما 
هذا الاستلقاء والجلوس، هذا التطواف العابث 
أيكون من الأفضل لي أن أذهب بعيدًا 
عن جفاف الريح 
أتراني أريد حياة مزينة
من نافذة جافّة، ضوء الفجر يهبط
على فردتي حذاء فارغتين 
أهذا ما كنت أريد، يا أخي 
أهذا ما كنت أريد. 

اقرأ/ي أيضًا:

جلوريا فورينتس.. 99 عامًا من الطفولة

المسيح خلّص باولو كويلهو من فوبيا الطائرات