17-ديسمبر-2015

مقطع من لوحة لـ لؤي كيالي/ سوريا

- الانتظار صعبٌ ومُضجرْ، خاصة انتظار الوحي للكتابة..! ساعات طويلة أمضيها جالسًا خلف مكتبي في المنزل، منتظرًا إياه دون فائدة تُذكر..! أعزي نفسي بالصبر، وأقنعها بأن الوحي آتٍ لا محالة. لكنّه، للأسف، قلّما يفعلُ ذلك..! 

ذات َيومْ.. بينما كنت انتظر بلا جدوى، والملل يهيمن على ملامح وجهي، سمعتُ رنين جرس المنزل.. نهضتُ، وذهبتُ نحو الباب.. فتحتهُ، فوجدتُ ولدًا يبتسم لي بطريقة تثير الشفقة.. نظرتُ إليه بحياد دون أن ابتسم، فبادرَ بالكلام..
- مرحبا عمو..
هززتُ رأسي.
- أهلا..
ظلَّ واقفًا مكانه على بُعدِ خطوتين من الباب، وهو يُمسكُ بحافّة قميصه المتسخ بعض الشيء، ويفركُهُا ببطء بأصابع يده، ويتحاشى النظرَ إلى وجهي..!
- عمو.. عندك زبالة وبدك تكبها..؟
فاجأني سؤاله..! لأول مرة في حياتي يسألني أحدٌ مثل هذا السؤال..! صمتَ الولد، واستمر في فرك حافة القميص ببطء، وهو ينظر بخجل إلى حذائه الرياضي القديم. 
سألتهُ بعد لحظات من الصمت.
- ليش عم تسألني إذا عندي زبالة وبدي كبها..؟
ازدردَ لعابَهُ ثم نظر إلى وجهي وأجاب بصوت فيه غصّة دفينة.
- حتى آخدها منك وكبها بالحاوية..    
لم أفهم. فسألتُ مرةً أخرى.
- وليش بدك تعمل هيك..؟ 
فأجاب بثقة. 
- شغل.. عمو..! شغل..! 
ابتسمتُ بفتور، بينما رجِعَ هو إلى خجله. نظرَ مجددًا إلى حذائه، وتسارعتْ حركةُ أصابعه التي تفركُ حافّةَ القميص. 
سألتُه.
- شغل شو..!!؟ هاد مو شغل..! إنت بدك تشحد مصاري.. لهيك اخترعت قصة الزبالة..!
أجابني بسرعة وكأنه يدافع عن نفسه.
- لأ عمو.. هاد شغل..! والله..!
أخذتُ نَفَسًا عميقًا، نظرتُ إلى عينيه. ومضَتْ لحظاتٌ من الصمت. 
قلتُ في نفسي: لماذا أستمرُ في الحديث معه طالما أعرف أنّهُ يريدُ أخذَ مبلغٍ من المال، مهما كان سخيفًا..؟! لماذا لا أغلقُ البابَ في وجهه، كما أفعل مع أمثاله من الشحاذين..؟ لماذا..؟!
أظنُّ أنّي وجدتُ ما يُبعدني عن حالة الملل من انتظار وحيٍ لا يأتي..! 
الولد مازال واقفًا، وأنا بادرتُ بكسر هذا الصمت.
- ومين قلك إنو هاد شغل..؟
حاولَ أن يشرح، لكنَّ الكلمات لم تساعده.
- جمع الزبالة شغل.. أنا بشوف ناس بتجي بسيارة الزبالة وبتفضي الحاويات وبشوف ناس على البسيكليتات بتوقف جنب الحاوية وبتصير تفتح الكياس وتاخد منها شغلات بلاستيك أو تنك..! إي عمو.. هاد شغل.. وأنا بدي اشتغل..!
تأمّلتُ في حجَّته، وظللتُ غير متحمسٍ لا لهذا العمل، ولا لاختياره.. سألته وقد بدَأتْ نبرةُ صوتي تلين أكثر من قبل.
- وما عرفت تشتغل غير هل شغلة..! بعدين إنت بعدك صغير.. لازم تكون بالمدرسة.. صح..؟ قديش عمرك إنت..؟ وينن أهلك..؟
صمتَ للحظة.. تنهّد بعمق، ثم أجاب على أسئلتي التي أطلقتُها دون ترتيب.
- عمري تمن سنين.. أنا صف تالت.. لازم اشتغل وساعد إمي.. ما لقيت شغلة اشتغلها من دون ما تحس إمي غير جمع الزبالة.. كل يوم بس ارجع من المدرسة بخبرها إني طالع العب مع رفقاتي.. وبدل ما روح العب معهن بصير ابرم على البيوت وآخد منهن الزبالة وهنن بيعطوني مصاري.. وكل يوم برجع ع البيت وبحط المصاري بجزدان إمي من دون ما تحس علي..! 
هي ما بتعرف إني عم اعمل هيك.. وما بتحس إنو حطيت مصاري لأنو ما بيطلعوا كل يوم أكتر من مية أو ميتين ليرة..! عمو أنا عم ادرس منيح.. بس لازم اشتغل وساعد امي..!
صَمَتَ، ومنعَ نفسَه من البكاء. أما أنا فلم أقتنع، وحاولت استجراره بالكلام حتى أتأكد من صدقه..! 
سألتُه.
- وليش بدك تساعد إمك..؟ وينو أبوك..؟ ليش ما جبت سيرتو..؟
 زمّ شفتيه. ازداد توتره. استمر في فرك حافة القميص بأصابع مرتجفة. ثم أجاب دون أن ينظر إلى وجهي.
- أبي مات.. مات بالتفجير يلي صار بالعدوي.. كان راجع من شغلو..! اتذكرتو التفجير عمو..؟
- إي اتذكرتو.. هاد صار من شي سنة أو يمكن أقل بشوي..
- إي عمو.. صح.. أنا كنت صف تاني وقت توفى أبي..          
زممتُ شفتيَّ وندمتُ على سؤالي. لم أتوقعْ أن يكون والدهُ قد قضى في ذلك التفجير. ثم تراجعتُ عن ذلك، ودققتُ لثوانٍ في مُجمل كلامِه..! ربما كان هذا الولدُ كاذبًا، ومن كثرة ما كرّرَ ذاتَ القصة صار مقنعًا في سردِها.. ربما..!  
سألتُه مجددًا.
- الله يرحمو..! وليش بدك تساعد إمك..؟ هي بتشتغل ولا لأ..؟
اغرورقتْ عيناه، لكنّه حاول ضبطَ أعصابِه. صمتَ لثوانٍ. ضمَّ أصابع يديه وقبض على حافة القميص بكلِّ قوته، ثم نظرَ إليَّ بثباتْ. وأجاب..
- إمي بتشتغل.. موظفة..!
- طيب.. ليش بدك تساعدها إذا هي عم تشتغل..؟ مو الأحسن تهتم بدراستك وبس..؟
زمّ شفتيه، ثم تابعَ كلامه وكأنني لم أقل شيئًا..
- كنا ساكنين بمخيم اليرموك.. وبس هربت الناس من بيوتها طلعنا أنا وإمي معهن.. وهلق ساكنين بغرفة على العضم أنا وهي.. 
صمتَ لبرهة ثم تابع.
- إمي استأجرت الغرفة من راتبها.. وأنا بعرف إنو ما بيكفي أجار ومصروف.. لهيك قلت لحالي بلكي بساعدها على قد ما بقدر.. ومن دون ما تدرى..! لأنو ما رح توافق إني اشتغل..!
علّقتُ بسرعة وباستغراب.
- تشتغل..! لسا بتسمي هاد شغل..؟!
وقبل أن يُجيب سَمعتُ أصوات أقدام تنزل من الدرج العلوي، ثم ظهر رجل، وتابعَ نزوله بعد أن نظرَ إلى الولد بتقزز ونفور، بينما نظرَ الولد إلى الأرض بخجل.
أجابَ بعد لحظاتٍ من غياب الرجل..
- إي عمو.. بدي اشتغل.. وما بدي إمي تعرف.. لهيك ما لقيت غير هل شغلة..
طغى صمتٌ قصيرٌ بيننا..! لم أقتنع بتفاصيل حكايته، مع أنها محبوكة جيدًا..! 
ظلَّ واقفًا ينتظر مني جوابًا ما..
- هلق كل ما دقيت على باب عم تخبرهن نفس القصة..؟
منعَ غصّتَهُ وشدّ على أصابع يده، ثم أجاب.
- لأ عمو..! لأ..!
نظرَ إليَّ ثم ابتسم بفتور..
- شكرًا عمو..!
لم ينتظرْ منّي أيَّ تعليق، ولم يعدْ قادرًا على منع نفسّه من البكاء. بدأ يمشي مبتعدًا عن الباب، أما أنا فشعرتُ بالتردد لكنني ظللتُ صامتًا. وبعد أن اختفى أغلقتُ الباب وأنا شاردٌ فيما جرى بيننا من حوار. وما أن استدرتُ حتى وجدت زوجتي تقفُ خلفي على مسافة خطوات، وهي تنظر إليَّ بلَومٍ وعتَبْ.
أجبتُها قبل أن تسأل..
- حسيتو عم يكذب..! إنتي سمعتي شو قال..؟
أجابتْ بلهجةٍ تماثلُ نظرتها.
- حتى لو عم يكذب..! ما بتخسر شي إذا عطيتو مصاري..! ولو عشر ليرات..!! ما شفت منظرو..؟! حرام عليك..!
زممتُ شفتيَّ، وبررتُ بطريقةٍ مترددة.
- ما بعرف.. ما صدقتو..!! 
تجاهلتُ نظراتِها المستنكِرة ورجعتُ إلى غرفتي. جلستُ خلف مكتبي لأُعزي نفسي بالصبر، وأقنعها بأنَّ الوحيَ آتٍ لا محالة، لكنّني لم أستطع إخراجَ صورة الولد من ذهني..! أما هي فقد فتحتْ البابَ علّها تجدهُ وتعطيه مالًا، لكنّها لم تفلح. رجعتْ، وأغلقتْ البابَ خلفَها.
ربما كان الولد يكذب حتى يثير شفقة الناس ويأخذ منهم المال، وربما العكس..! لا أعرف..! لكن كلامه ظل يَطِنُّ داخل رأسي ويشوش تفكيري. 
- في ظهيرة اليوم التالي، وبعد انصراف طلاب المدارس، توقّعتُ مجيئَه مرّةً ثانية، وانتظرتُ عدّةَ ساعاتٍ.. لكنّ جرسَ المنزل لم يَرنْ..!

دمشق 2013

اقرأ/ي أيضًا:

خلاصُ أبي جابر

عند حدود بلدانٍ كثيرة