27-مارس-2017

(Getty) دير الزور عام 1970

لم أزرها أبدًا، وقلة من أهالي العاصمة وريفها، وحتى جنوب البلاد بأكمله، خطر في باله أن يحمل أمتعة شهوة التجوال ويزور تلك المدن، التي اعتقدَ أنها قصية، وأنها معفرة بالرمل، ودروبها أفاعٍ سامة في صيف لا ينتهي.

مع اقتراب السواد من مدن الفرات استحال كل شيء إلى ذعر وموت

دير الزور والرقة وقراها التي عرفناها من زملاء الجامعة لم تكن سوى أسماء بعيدة قريبة، بعيدة المنال فأكثر من 10 ساعات سفر تبدو زمنًا في بلد كسوريا تضطر فيه لركوب "الهوب هوب" أو "كرنك" الحكومة مع استراحتين قصيرتين لا تكفيان لتدخين سيجارة واحدة من "الحمراء الطويلة". وقريبة لكونها من نفس النسيج البائس الذي لا يحتاج كثيرًا من الذكاء لاكتشافه فكل مداخل المدن والقرى واحدة، نفس الأقواس اللعينة والشعارات البائسة عن الدولة الواحدة والحزب العظيم تكشف لك عمق الكارثة والإهمال.

اقرأ/ي أيضًا: سوريا تنزف آثارها

في الحرب صارت المسافة أبعد، والرغبة أكبر بمشوار على الجسر المعلق، أو السباحة في نهر يحكى أنه الأكبر في بلدك، وشارع "الستة إلا ربع" في المدينة القديمة لدير الزور، وأما الريف فكما يحكي الأصدقاء مزرعة شوق ولحم وشواء، وطقوس بداوة أصيلة وصحراء حانية.

مع اقتراب السواد من مدن الفرات استحال كل شيء إلى ذعر وموت، وصارت القرى مجرد خيالات أشباح، وحتى أولئك الذين جاوروا السوق المدني استحالوا إلى ما يشبه أطياف بشر، بسبب الحصار والجوع والاستباحة. ثمة موتان في دير الزور، وألوان من الخوف والاغتراب، حيث يمسك طرفا الصراع بالناس كدريئة قتل، كما يفعل الجنود في التدريب على أجساد من كرتون صالحة للقنص.

في الرقة، لون الموت واحد وإن اختلفت أدواته، ما بين سكين أو رمي من شاهق أو قطع رأس ويد، والقتل حرقًا أو ردمًا... هو موت واحد أسود لمجرد الكفر بالجوع والمصير وإله الغرباء.

في الرقة، لون الموت واحد وإن اختلفت أدواته، ما بين سكين أو رمي من شاهق

اقرأ/ي أيضًا: داعش في دير الزور.. روسيا المحايدة!

اليوم مدن الشوايا تحت نار جديدة، ومذابح على امتداد النهر الذي تهدم جسره وظهره، وأما الناس فلا يستطيعون الهرب من موتهم، فقط تغير شكل الأداة وقوتها، وربما صارت أسرع في صعود الروح، نوم يتلوه عدم، وموت بدون وجع نزوع الروح من جسدها، وأما البديل فضياع طويل مرهق لتجد ضالتك في الموت من جديد... هي أقدار الشوايا الذين غنّوا بقرب النهر حتى غرق من البكاء.

في الطريق إلى الفرات، ثمة اليوم ما يجعلني أندم على أنني لم أسلكه ذات يوم هاربًا أو زائرًا. ثمة مدن مهددة بالزوال غرقًا، وشعب مني عرفته غريبًا أو مهجّرًا، ومهما اختلفنا في تسمية الديري والرقاوي هل هم بداة أم شوايا ثمة غصة في أننا نسيناهم في تيهنا الكبير!

 

اقرأ/ي أيضًا:

في رثاء حسين الحسن

سوريا واستنساخ سيناريو تبعية العراق